يبدو ان سر ابتعاد الكثير من الشعراء والمبدعين واصحاب التجارب الابداعية الجميلة له علاقة مباشرة بعدم القدرة على التكيف مع هذه المفاهيم الاجتماعية الخاطئة التي يروج لها الاعلام بكل طاقاته وامكانياته لتكون هي النموذج الذي تقاس عليه علاقاتنا وتحركاتنا ونمط معيشتنا اليومي، الامر الذي يتنافى تماما مع ما جبلت عليه فطرتنا السليمة السوية وليست المعقدة.
فالشاعر الذي كان بالامس يتعامل مع مجتمعه من خلال فهمه هو للاشياء دون اي ضغوط خارجية وجد نفسه اليوم في مواجهة غول كبير اسمه «العالم هذا اليوم» الا ان هذا العالم لم يعد رحبا بما يكفي لتكون انت نفسك بل يجب ان تكون كالآخرين.
فسميت الاشياء بغير اسمائها والناس بغير اسمائهم فالحب لم يعد اسمه كذلك لان الكثيرين ليس لديهم الوقت للتعرف عليه من خلال قنوات القلب التي لا تناسبهم بل بضغطة زر على «الكي بورد» يمكنك ان تحب الكترونيا وتنفصل كذلك الكترونيا.
وبالمناسبة لست ضد هذه التقنية العلمية الهائلة التي نستخدمها في الكثير من جوانب حياتنا اليومية لكني بالطبع لست مع هذه الفوضى العارمة في نمط العلاقات التي ولدت لنا جيلا لا يعرف ماذا يريد والى اين يتجه والامر الذي يعنيني التحدث عنه هنا هو الشعر الذي تحول بفضل الكثيرين من شعراء هذه المرحلة الى محارم ورقية رديئة الصناعة لا يمكنها ان تسد ثقبا صغيرا في قلب كبير ولا اقل من ذلك.
ولقد قرأت قبل مدة احدى اسوأ القصائد ليس من ناحية الشعر المفقود اصلا في تلك القصيدة ولكن اسوأها من ناحية الفهم للروح الحقيقية للحب على الاقل من وجهة نظر الكثيرين من العقلاء في هذه الحياة.
يقول ذلك الشاعر:
والله لا هينك مثل ما انت تهينينى
وادوس في عزة اشعاري على راسك
يـــا لعنـبـوك انــت اصـــلا عــند رجلـيني
لكــن رفعـتك مـعي لجل ارفـع احساسك
فأي حب هذا الذي يبدأ بالاهانة وينتهي بالتهديد؟
اي علاقات انسانية يحسب هؤلاء الناس انهم يعيشونها؟
ولا اظن والله ان احدا منا يحاسب «خادمة» مسكينة قطعت آلاف الاميال لتعول اسرتها على خطأ ارتكبته سواء قصدت ذلك او لم تقصد باكثر من ان يعطيها ما بقي لها من راتب ثم يعيدها الى مكتب الخدم معززة مكرمة لانها ليست سبيا سبيناه وليست ملك يمين، حتى ان كانت كذلك - ولن يحصل هذا ابدا - فليس من الشيمة او المروءة ان نعاملها بهذا الشكل ولكن شعراء هذه المرحلة عززوا هذا المفهوم فيما بينهم للحد الذي لم يعد هذا الامر مستغربا حين يقوله احدهم بمنتهى الحرية وراحة البال، بل تجده «منكشحا» وفخورا بنفسه اذ استطاع ان يهين امرأة ما او يحط من قدرها مهما كانت فعلتها، فالنساء «لا يغلبن الا كريما ولا يغلبهن الا لئيم».
فرحم الله البحتري حيث يقول:
تعاتب عـاشقان على ارتقاب
اديـلا الوصل من بعد اجتناب
فـلا هــذا يمــل عتـــاب هذا
ولا هـذا يكــل عـن الجــواب
دائما ما اتذكر بدر بن عبدالمحسن سواء في مثل هذه المواقف او غيرها واقول في نفسي: لماذا لم يقل بدر بن عبدالمحسن مثل ذلك الهجاء الغزلي؟
ولماذا تنساب دمعته من قلبه فنقرأها في شعره؟
لانني اظن ان انسانيته وشاعريته واشياء اخرى كثيرة تمنعه من النزول الى ما لا يليق به وبنا، فهو الذي اراد ان يقتلع قلبه من صدره دون ان يوجع القلوب الاخرى كي لا يقول انا اكرهك بل ليقول بمنتهى الرقي:
اليوم لعيوني السما والارض البعيد..
اليوم ولغيرك انا يطري على بالي القصيد..
اشتـقت للقـلب الخـلي..
وش هــم.. لـو تعـتب على..
جيتك انا فـ ليلة الم.. قلبي على كفي..
همست لي روح ياغريب الشوق مايكفي..
سلم ابارد السلام..
وهذا ترى كل الكلام..
اللي بقى بينك وبيني..
تـخـيــــل..
فحسبه ان يقول ذلك لنتحسس هذه الفخامة الشعرية والانسانية من خلال لمحة شعرية واحدة تغنى عن الكثير من شعراء هذه المرحلة من خريجي معاهد العلاقات السريعة التي تبدأ لكي تنتهي لكنها حتما ستولد لنا مثل ذلك الشعر الرخيص والفهم السيئ لطبيعة العلاقات البشرية!
فهد دوحان
صفحة الواحة في ملف ( pdf )