تسلم إيدين الحرير...
تسلم إيــــــــديـــن..
جمعتني غبار من بين الجرايد
وانـثــرتـنــي .. ف الـفــضـــــا
جنحــان .. وخـلـتـنـي أطــيـر
للمـلـمـت مـــــوج الـظــلام ..
عــن أصــابـع كفي العطشى
وصــبـــــت..
في كفوفي..
ألــف نجمة..
ألــف صبـح..
وألف بستان وغدير
حتـى خلتيـني أصـيـر..
من شفافية هواها الناضح الفاضح...
عبـيـر
وصــرت أغـانـي عشق تحفظها المواني
وضمـهـا الـغـيــم..
من أول نداها .. للأخير
ألــــف شـكـرا
ألــف شكرا لك كثير
فـوق مــرجــان الـكـلام
توجتني إيدك البيضا إمارة
وصــرت فـي ظلك أمير
ألــف شـكـرا
ألف شكرا لك..
وليدين الحرير
هذا النص من النصوص التي استوقفني كثيرا، لا بسبب جودته الواضحة، وإنما بسبب عدم القدرة على الإحاطة به، فهو ينطلق من نقطة غير مرئية شعوريا إلى فضاء رحب يصعب الوصول إليه.
تسلم إيدين الحرير
تسلـم إيــديـن
هنا نرى الشاعر يقدم العرفان والشكر والامتنان للمقابل المحبوبة بمعناها الخاص والأنثى بمعناها العام... وهنا تختلط علينا الملامح، ويصعب علينا التحديد، لأن الشاعر وبذكائه الشعري الحاد وقدرته الخلابة وتجربته الفنية المتجذرة، عمقا وأصالة ووعيا، لم يتعامل مع المقابل تعاملا ساذجا ويكشف لنا ماهيته الحقيقية، ولو فعل في هذا النص كما يفعل الشعراء الآخرون، لسقط أمام نفسه، وأمام نصه، وأمامنا كقراء ومعجبين وكمتابعين وفضل «القدرة على تركيب نص مغـــاير يختــــرق الجاهز المغلق المستبد»، كما يقـــول محمد بنيس عــن فاعلية الإبداع، ونفورا عن التقليــدية الهــشة.
استخدم مدلولات لفظية تدل على العذوبة والنعومة والأجواء المخملية الساحرة «حرير.. جنحان... نجمة... صبح... بستان.... غدير..» فهذه المدللات نثرها حوله كمكونات طبيعية خاصة به، فهذه الألفاظ خلقت له نوعا من التآلف الروحي بينه وبين المقابل، ولم يتعامل معه بطريقة ندية أو بطريقة دونية تعكس عقدا نفسية متأزمة من شموخ زائف كما هو الحال في غالب نصوص شعراء الساحة الشعبية.
تسلم ايدين الحرير
تسلم ايــــديـــن...
جمعتني غبار من بين الجرايد
وانـثــرتـنـي .. ف الــفـضــا..
جـنـحـان .. وخـلتنـي أطـير
لقد قدم لنا صورة أخرى للرجل، صورة الرجل الممتن العارف بفضل المحبوبة أو الأنثى عليه... لقد هشم الحواجز البرجوازية إذا أجيز التعبير بين الرجل والمرأة... لقد عكس لنا صورة مغايرة لما اختزل في الوعي الجمعي الجماهيري المتغطرس... إنها الأنثى الملهمة التي انتشلت الشاعر من «بين الجرايد» بما في هذه الجرايد من تفاهات وسطحية وسرعة إخبارية متناهية تتحمل الخطأ والزيف والدجل أكثر من احتمالها للحقيقة...
إنها صورة واضحة للزيف اليومي وهشاشة التعامل... نعم.... لقد انتشلت هذه الأنثى الشاعر من هذا الركام المادي الساذج، وانطلقت به بعيدا... أو أطلـــقته كالـــطائـــر ليمــارس الحياة التي يطمــح لها كــل شاعــر ومبدع.
للملمت موج الظلام..
عن أصابع كفي العطشى
وصـبـت..
في كفوفي..
ألف نجمة..
ألف صبـح..
وألف بستان وغدير
حتـى خلتيـني أصير..
من شفافية هواها الناضح الفاضح...
عـبـيـر
أطلقته كإنسان أو كعاشق من فوضوية الحياة المادية التافهة ومنحته القدرة على التعبير والتحليق، والخلاص من الإنسان المسجــون بين قضبان الجـــرايد وعجـــلة الحـــياة.
لملمت موج الظلام
بما في هذا الظلام من قسوة وعتمة حجبته عن رؤية نفسه وعن رؤية الآخرين... أعتقته من هذا الظلام، وصبت في كفوفه الحياة والنور.
إنها لم تزرع الحياة... بل صبت في كفوفه كل القيم الجميلة في هذه الحياة، ليظل يرتشف من ينبوعها الذي لا ينضب هذا الإحساس المتناهي بالزهو والانطلاق جعل الشاعر ينطلق لا على سبيل التحليق بل على مستوى التلاعب بالألفاظ فهو على سبيل استحضار حاسة اللمس... استخدم الحرير وعلى سبيل التفرد والتأمل... استخدم جنحات وعلى سبيل حركة الأيام وتعاقب الزمن... استخدم الصبح والنجمة كرمز واضح لليل والنهار.
لهذا نرى أن الشاعر أصبح يتمدد بعد لحظات الانكماش كما بين الجرايد أو «موج الظلام» ليتحول إلى أغاني عشق ترددها جنبات الكون.
وصرت أغاني عشق تحفظها المواني
وضـمـهــا الـغــيـم
من أول نداها ... للأخير
إن لحظات الانطلاق الممنوحة للشاعر من قبل الأنثى المحبوبة، المعجبة الأنثى بمدلولها الواسع الرحب منحت الشاعر تمددين:
تمدد أفقي... وتمدد عمودي
التمدد الأفقي كما ذكرناه آنفا من خلال حديثنا عن الشاعر وعن خلاصة من سجنه النفسي والتمدد العمودي من خلال الصعود إلى أعلى والامتزاج بالغيم.
وهنا لابد من العودة للمفردة الشعرية «صبت» إذ نلاحظ أن الشاعر امتزج بدورة الماء في الطبيعة، لكن ليست بالطريقة العلمية الجافة بل بأسلوب شعري فريد.
فبما أن المرأة منحت الشاعر الحياة والحرية والانطلاق من خلال المفردة الشعرية «صبت» في كفوفه بواعث الاشتعال العاطفي والانطلاق النفسي نحو الفضاء الرحب مما جعل هذا العمل من الشاعر يتمدد ويتفاعل مع الحياة، ليعلو في سماء العاشقين، ليس كنجم يرسل الضوء في ساعات معينة من اليوم، بل امتزج بالغيم ليصبح معينا روحيا لا ينـــضب، يمـــد العاشـــقين، وكل موانـــئ الحب بالنور والحـــياة والانطــلاق والحرية.
وفي هذا السياق... فنحن لا نستغرب من كل هذا الخضوع للمرأة تلك التي منحته كل هذا التموج والانطلاق.
ألف شكرا
ألف شكرا لك كثير
فوق مرجان الكلام..
توجتني إيدك البيضا إمارة
وصرت في ظلك أمير
ألـــف شـكــرا
ألف شكرا لك..
وليدين الحـريـر
لأنها منحته القدرة على التعبير، والحديث مع نفسه وعن نفسه بكل عفوية بما وصفه بـ «مرجان الكلام» ينطلق من فوضوية الجرايد وضياعها ومن «موج الظلام» ليتوج نفسه في محراب هذه المحبوبة كأمير مدلل، إنه يتعدى مرحلة العاشق بكل ما في هذا العاشق من شفافية إلى شفافية من نوع آخر «أمير» بعد أن منـــحته هذه الأيادي البيضاء كل أســـباب النجـــاح والتميز.
وفي عودة أخرى للنص نرى أن هذا التكثيف من المفردات المخملية التي حامت حول الشاعر كالحمامات البيضاء «حرير فضا جنحان أطير صبت ايدك البيضا» كما أن مفردة «مرجان» لها علاقة بالماء وكذلك لها علاقة نفسية بالشاعر من خلال تأصيل العلاقة معه بالأنثى كما هو واضح من خلال دورة الماء في الطبيعة التي أشرنا لها سابقـــا في الـــحديث عـــن التــمدد الأفــقي في قــصيدة الشــاعر «ايــدين الحرير».
محمد مهاوش الظفيري
صفحة الواحة في ملف ( pdf )