كلنا قرأ عن الحب وسمع به، وكلنا سمع أغنيات تحمل هذا الاسم السحري الشفاف، مثل «الحب كله» و«الحب كده» و«ليلة حب» و«سيرة الحب» وصارت هذه الكلمة وجبة يومية في حياة الكثير من الناس، يتداولونها في المجالس ويمارسونها في الشوارع، ولكن... هل سألنا أنفسنا عن أنواع الحب، وأي هذه الأنواع أصدق، وأيها أشهر؟
لا أريد أن أخوض فيما ليس لي به علم، وسأكتفي بعرض رأي أحد المتحمسين لهذا الموضوع، وهو الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ ولكن بطريقتي الخاصة، إذ قسم الحب في كتابه «طوق الحمامة» إلى أربعة أنواع، فالنوع الأول هو حب النظرة الأولى ـ كما يقال ـ القائم على الشهوة واللذة الحسية والذي يطفئه الاتصال المباشر بالآخر، ولعل هذا النوع هو المقصود من قول العرب «الحب يقتله النكاح» والنوع الثاني ذلك المعتمد على الوصف كأن تصف الأم لأبنتها ولد الجيران أو يسمع الشاب بابنة فلان التي جمالها كذا وشعرها كذا، فتهيم البنت بمعشوقها ويهيم الشاب بصاحبته، وهذا ما وصف بحب الحمقى والمغفلين، والنوع الثالث وهو الناتج عن النوم وأحلامه كأن يرى الرجل امرأة حسناء في المنام فيدور يبحث عنها من شدة العشق، ولا أستطيع أن أصف أصحاب هذا النوع، والنوع الرابع هو حب المداومة وطول المشاهدة والمعاشرة والاستمرار والتواصل، والذي لا ينبت بين ليلة وضحاها، وهو أعمق أنواع الحب وأصدقها.
وهذا ما أشار إليه أبو بكر الرازي «فإن العشق متى انضمت إليه الألفة عسر النزوع عنه والخروج منه»، وهو ما أكده عروة بن حزام قبل الرازي بمئات السنين عندما قال في عفراء:
أناسية عفراء ذكراي بعدما
تركت لها ذكرى بكل مكان
ومن خلال هذا العرض، أكاد أجزم أنكم عرفتم أكثر هذه الأنواع شهرة وأكثرها صدقا.
وفي محاولة للالتفاف على الكلام السابق كله للوصول إلى عنوان المقالة وموضوعها الرئيسي، أود مناقشة نقطة قد تبدو للوهلة الأولى لا علاقة لها بالموضوع، وهي في الحقيقة من صميمه.
ألا وهي قضية الأجيال وعلاقتها بالزمن حيث اعتمد الجيل الأول وهو جيل أجدادنا وآبائهم على الخرافات والقصص الشعبية التي دخلت لها الأساطير والخزعبلات كقصة الزير سالم والعقرب والثريا... وغيرها... وغيرها من القصص الأخرى.
ثم جاء الجيل الثاني، وهو جيل آبائنا نحن، وهم شباب الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات الميلادية، الذين اعتمدوا على جهاز «الراديو» في تلقي الأخبار وتكوين الآراء والانطباعات، والذي صبغ أبناء تلك المرحلة بالغباء السياسي وسرعة التأثر وشدة الانفعال، فوضعوا لأنفسهم زعامات خالدة أكسبوها صفة القداسة رغم أنها أودت بشعوبها الى المهالك وألحقت الأجيال بعار النكسات والهزائم، وهي لا تملك من الأسلحة إلا الصراخ والشعارات الرنانة.
ومضى الجيل الثاني، وجاء الجيل الثالث، جيلنا نحن جيل «التلفزيون» حيث رفضنا أن نسمع ونصفق بكفوف ملتهبة ونعوي في الشوارع، وفضلنا عنصر المشاهدة، ولهذا سقطت أمامنا أكثر الأقنعة غموضا، ورفعنا راية أن القداسة لله والعصمية للأنبياء، والمثالية حياة اختصت بها الملائكة، وعلى هذا الأساس أصبح الجميع سواسية وصرنا نردد «كلكم لآدم وآدم من تراب» وصار النقد ـ ولو همسا سلوكا طبيعيا نقر بعضنا بعضا عليه.
وسيمضي جيلنا إلى حال سبيله، ويحل محله الجيل الرابع، وهو جيل «الانترنت» الذي هبت رياحه علينا وهو جيل الأبناء، وهذا الجيل هو الذي سيكسر الحواجز ويهدم السدود ويخترق الممنوع... ولدى هذا الجيل القادم ستسقط جميع الأقنعة، ويكون الاتصال بالعالم الخارجي أسهل من الوصول إلى باب المنزل.
وعندما يأتي هذا الجيل... يبقى سؤال محير، لا نستطيع الإجابة عنه... وهو... كيف سيكون شكل الحب لديهم؟
وأي نوع من تلك الأنواع سيمارسون؟
وهل سيكتشفون نوعا خامسا؟
أم أنهم سيمارسون الأنواع الأربعة دفعة واحدة بكل صفاقة وجه؟
أم يــا تــرى ستشغلهم الحضارة، والسرعة الهائلة في سباق المعلومات عن أنفسهم، وعن الإحساس بوجود الجنس الآخر؟
محمد مهاوش الظفيري
صفحة الواحة في ملف ( pdf )