اكتسبت سالزبورغ، رابع أكبر مدينة في النمسا، شهرتها من المكانة الثقافية التي تحوط تاريخها ومن جمالها الفريد وطبيعتها الخلابة، وأزقتها المزدانة بالمعالم الأثرية. وللدقة في التعبير، فإن هذه الميزات مجتمعة تجعلها من بين أكثر المواقع استقطابا للسياح في العالم. وتتصف ربوعها الهادئة المتكئة على كتف سلسلة جبال الألب، والتي يزورها سنويا ما يزيد على 6.5 ملايين سائح، بتوهجها صيفا وشتاء في محاذاة ضفاف نهر «سالزاخ». وأكثر من هذا وذاك، فإن مركز المدينة القديم، والمعروف بطرازه المعماري العريق الذي يعود الى النمط الباروكي، تم ادراجه ضمن المواقع التراثية العالمية، بحسب منظمة «اليونسكو» عام 1997. عند زيارة سالزبورغ، مسقط رأس الموسيقار الشهير موزارت، والتي يطلق عليها لقب العاصمة الثقافية للنمسا، والمركز الثقافي العصري لقلب أوروبا، لابد من التجول في شوارعها تماما كمن يسير بين منعطفات كتاب صفحاته شوارع وأحياء. وعند كل زاوية معلم تاريخي من المفيد التوقف عنده والاستفسار عن قصته، هنا حصن «هوهين»، وهناك الكاتدرائية الباروكية وصرح الفرنسيسكانية الواقع عند سفح مونخسبيرغ، وبينهما نماذج عدة لمدينة عريقة بالتقاليد، ذات إطلالات أخاذة لاسيما لجهة الضواحي الساحرة في الجنوب، والبحيرات الساكنة في الشمال، وبحيرة «سالزكاميرجيت» شرقي البلاد.
مسرح العالم
لكثرة المهرجانات التي تقام فيها، يشار إلى سالزبورغ أحيانا على أنها «مسرح العالم»، وذلك لما تقدمه للسياح من عشاق الموسيقى ولمن يزورونها بقصد الاستجمام، واضعين في قائمة اعتباراتهم حضور الاحتفالات الموسيقية عالية المستوى، والمستوحاة من أداء الموسيقار العبقري موزارت (1756 ـ 1791). وهي بتنوعها تقدم برنامجا سياحيا يتضمن اكثر من 4000 حدث على مدار السنة. وهناك يحار الزائر ماذا يتابع، أيحضر حلقات أسبوع موزارت في يناير، أم احتفالات الربيع، أم مهرجان الصيف المشوق؟ ويتمتع هذا المهرجان بتقاليد عريقة منذ تأسيسه عام 1929 على يد مجموعة من الفنانين والمثقفين المحليين الذين دفعوا من غير قصد الى اتخاذ منحى العالمية.. وفيه تقدم المسرحيات التقليدية مثل «جيديرمان»، التي كانت شائعة في القرون الوسطى، وتباع سنويا في المهرجان قرابة 200 ألف تذكرة اكثرها لمحبي الموسيقى والأوبرا العالمية.
وفي مهرجان الصيف للسنة الفائتة، تم عرض الاوبرا متعددة الاوجه، كما اقيمت المسرحيات والحفلات التي تضمنت اوبرا من جورج فريدريخ هانديل، جيوخينو روسيني، جوزيف هايدن، لودفيغ فان بيتهوفن، وموزارت، وللاستفادة من هذه الانشطة لفترات أطول، يتم عرضها على مدار العام في أماكن تاريخية عريقة مثل قصر الحفلات الموسيقية، صالة «ميرابيل» الارستقراطية والمخصصة لإقامة حفلات الزفاف قلعة «هوهين»، والصالة الفخمة المصممة على الطراز الباروكي في سرداب «سانت بيتر» أقدم مطعم في المدينة. وتقام حفلات الأوبرا كذلك على مسرح العرائس، وأمسيات الموسيقى الكلاسيكية في جامعة «موزارتيوم» المتخصصة بالموسيقى والمسرح والفنون النظرية، أما مهرجان الجاز، فيمكن حضوره خلال الايام الثقافية التي تمتد ما بين نوفمبر واكتوبر من كل عام.
سحر مدينة سالزبورغ وأناقة ساحاتها والاطلالات الساحرة لفنادقها، جعلتها الخيار الاول لتصوير مشاهد فيلم «صوت الموسيقى»، الذي عرض في العام 1965، وتضمن اجمل المعالم السياحية في النمسا. ولا يمكن لأحد أن ينكر الاثر الكبير الذي تركته تلك المشاهد الرائعة لدى الملايين من الناس من مختلف انحاء العالم، وزادت من رغبتهم بزيارة هذه المدينة الخلابة بطبيعتها وشعبها المضياف، ولا نغفل الجانب الآخر لهذه البقعة من الأرض والتي تشتهر بالمأكولات النمساوية المحلية، وبالحياة الليلية والمطاعم والفنادق والتسوق، وهي مدينة مثالية لمحبي أجواء التسويق وسط المطاعم والمقاهي، إذ تقدم الكثير من خيارات الطعام التقليدي بالنكهات المحلية، بالإضافة الى الوجبات من الأطباق العالمية، وتعتبر شوارع التسوق في مركز سالزبورغ التاريخي الأكثر جمالا في النمسا، حيث مازالت المتاجر والمعامل الصغيرة تعمل بالطريقة التقليدية عميقة الجذور، وخلال جولة يقوم بها الزائر مشيا على الأقدام يمكنه ان يعاين من قرب الخبازين المحترفين وتجار الفرو ومبتكري الديكور والحائكين وصانعي الحلوى والخياطين وكل أولئك يعملون على بث الحياة في شرايين الأزقة الضيقة والساحات الداخلية العريقة.
وبالعودة الى التاريخ شكلت سالزبورغ مدينة إدارية مهمة خلال العصر الروماني، نظرا لموقعها الاستراتيجي على مفترق الطرق الرئيسية التي تربط بين الشمال والجنوب، وقد أسست في نهاية القرن السابع الميلادي، واستفادت كثيرا من ثروتها الباطنية المتمثلة في الملح أو ما يعرف بـ «الذهب الأبيض» في التبادل التجاري، وتشغل المدينة اليوم موقعا مركزيا مناسبا وتعد ملتقى سياحيا مهما، إذ يزورها سنويا وفقا لآخر الإحصائيات نحو 6.5 ملايين زائر.
قلعة الملح
المعنى الحرفي لسالزبورغ هو «قلعة الملح»، وقد استمدت المدينة هذه التسمية من توافر الملح فيها بغزارة، لدرجة انه يطلق عليه حتى اليوم اسم «الذهب الأبيض» لما كان له الأثر الكبير في ثراء القائمين عليها عبر العصور.