جلال أمين مفكر ومبدع رائع ومهم، ولقد اخترت لكم من نتاجه الفكري ما يلي وهو قوله:
إن الكلمة أي كلمة (كائن حي) كالناس سواء بسواء، تولد وتعيش ثم تموت، ومن الممكن أن تروى قصة حياة أي كلمة كما تروى قصة حياة أي رجل أو امرأة وهي تمر بحياتها بفترات سعيدة وأخرى شقية مثلي ومثلك تماما. إن من يتتبع قصة حياة كلمة (سلام) وسيرتها الشخصية سيعرف كيف أنها تمتعت خلال عصور طويلة بحياة هانئة تماما ثم أصابها فجأة منذ نحو خمسين عاما وبالتحديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية نوائب وكوارث فتشردت وانتهت كما لم تتشرد أو تمتهن أي كلمة أخرى.
ظلت كلمة «سلام» حتى خمسين عاما خلت تعني أشياء طيبة للغاية في مختلف لغات العالم، فكان أهم معانيها (الامتناع عن الحرب) ومازال بعض الناس يذكرون هذا المعنى حتى اليوم ولكنها كانت تعني أيضا (الهدوء والطمأنينة)، على أن كلمة سلام قد حظيت في اللغة العربية بالذات بمكانة أرفع مما حظيت به في أي لغة أخرى وبمعان أخرى كلها معان بالغة الرقة والجمال، فكلمة السلام في اللغة العربية تستخدم بمعنى التحية بل وكاسم من أسماء الله تعالى، فيسمي الناس أولادهم (عبدالسلام)، أما عن استخداماتها الجميلة في العامية فحدث ولا حرج، إذ إنها تستخدم للتعبير عن الإعجاب والاستحسان كما في عبارة (يا سلام) وقد يستخدم نفس التعبير للتعب أو التنهد إذا ما تغيرت نبرة الصوت ودرجة المد في نطق الحروف.
استمر ذلك قرونا طويلة إلى أن حدثت الكارثة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة ولا يمكن أن نحدد على وجه قاطع السبب الحقيقي فيما أصاب الكلمة من نوائب بعد هذا التاريخ، والأرجح أن السبب الأساسي هو أنه قد أصابها مع انتشار أساليب الحياة العصرية ما أصاب حياتنا كلها من تلوث، فكما حدث للطعام الذي نأكله والماء الذي نشربه فقدت كلمة (يا سلام) طعمها الجميل ورونقها وكما حدث لآدمية الإنسان في كل مكان تحت وطأة الحياة الحديثة امتهنت الكلمة وداستها الأقدام.
ولقد كان الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل في روايته المعروفة (1984) التي خطرت له فكرتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة هو (على حد علمي) أول من لاحظ ما أخذ يطرأ على كلمة سلام من تدهور، وتنبأ لها بمزيد من الانكسار والانقلاب وتنبأ بأن كلمة السلام سوف تستخدم في المستقبل بمعنى (الحرب) ومن ثم ستسمى وزارة الحربية بوزارة السلام ولكن حتى جورج أورويل بكل ما كان يتمتع به من حس مرهف ما كان ليتصور ما يحدث في عالم اليوم.