جلست معه نستذكر كيف ولد مجلس الأمة، وكيف نما وترعرع بكنف (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، وكيف كان للمجلس هيبة ووقار؟ يقول صاحبي: في يوم، قلت لوالدي «النوخذة» والتاجر المعروف والملتزم بكل الصفات الحميدة: لماذا لا تكون نائبا بمجلس الأمة ؟ فرد بكل تواضع: هناك من هم أقدر مني على حمل هذه الأمانة.
قول تسمعه دائما من رجال الكويت (يؤثرون على أنفسهم) والدليل: تراه في المسجد عندما يغيب الإمام، فترى المصلون يطلب كل واحد من الآخر التقدم للإمامة، فيرفض ويرشح الأكبر منه، أو الأكثر حفظا، أو الأجمل تلاوة، حتى الإمامة للصلاة كانت عندهم مسؤولية، رغم أنها دقائق معدودة، ومنهج ثابت، وثواب مضاعف، لكن قول الله عز وجل يصدح في آذانهم (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).. إنها الأمانة وما أدراك ما الأمانة!
أما اليوم فترى الكثيرين من العامة، يتنافسون على مراكز القيادة والقرار، ويزاحمون الحكماء، وأصحاب الرأي والمشورة، فيبتعد الأخيار تعففا عن مجادلة هؤلاء، والخوض معهم في تفاهة الأمور، فكانت النتيجة طفح الزبد، وأما ما ينفع الناس فذهب هباء.
في بدايات مجالس أمة كانت غالبية أعضائه من خيرة أهل الكويت نواخذة قياديين، أو تجار أمناء، أو شيوخ قبائل محترمين، أو سادة مخلصين، لوطنهم وللمواطنين، لا تغريهم الدنيا بزخرفها، ولا يضمرون لأنفسهم نفعا، يستذكر صاحبي قصة ذلك العم «يرحمه الله» حين طلب منه أصدقاؤه الترشح ليكون نائبا ففعل ونجح وأصبح نائبا، ولكن حين شعر بأن هناك تزويرا وغشا، وأن الانتخابات شابها أمور غير محمودة، فما كان منه إلا أن لزم بيته ولم يذهب للمجلس، تأسيا بالحديث النبوي عند الفتن، واقتناعا منه بأن حرمة المجلس تدنست، فتم حل المجلس، وإعادة الانتخابات، هؤلاء هم رجال الكويت، حين نقرأ ونسمع مواقفهم وحوارهم، ورقابتهم وتشريعهم، نقرأ درسا ونسمع محاضرة في الديموقراطية، كانت أمنيتنا «السخيفة» أن يكون نوابنا من حملة الشهادات العليا، وكأن هذا ما ينقصهم! أو يزيد المجلس قدرا.. ويدور الزمن ويزدحم المجلس بحملة تلك الشهادات من نواب، ولكن فقدنا فيهم صفات الأوائل من حكمة وعفة لسان، وطهارة جيب، وأمانة بالمسؤولية، وإخلاص للوطن، وصدق بالسرائر، أصبح مجلسنا مغارة «علي بابا» ندخل بأيدينا الهزيل، ويخرج سمينا متخما بالأنعم والمزايا.. نستاهل، هذا ما جنيناه على انفسنا بانتخابهم، فتمنينا عودة السابقين، أولئك هم الصادقون، ثم يدور الزمن، وتتبدل الأجيال، فيحتار الناخب في الاختيار، أصبحت علامات وصفات المرشحين الظاهرة لا تدل على سرائرهم، أصبحت الدنيا أكبر همهم، ومصالحهم الشخصية أسمى أهدافهم، لا ينفعون الوطن، ولا المواطن، ولا يعينون الحكومة، همهم الكسب من خلال بضاعتهم (موافق، وغير موافق، وممتنع) أو الاستجوابات.
انفعل صاحبي في حواره معي، وكأنه يلوم نفسه على مشاركته بكل الانتخابات الماضية، وأنه كان شريكا بالفساد الديموقراطي دون أن يعلم، سألته: ماذا نفعل في الانتخابات القادمة؟ نشارك أم لا؟ وما المعايير والموازيين التي تقترح أن نطبقها على المرشحين حتى نختار واحدا منهم؟ ضحك صاحبي وقال: لو أعطيك ألف معيار وميزان فلن تنجح في تطبيقه، فالله وحده يعلم ما في الصدور.. ولكن جرب هذا الاختبار بهذا المعيار والميزان، قلت: ما هو؟ أنقذني به أرجوك! رد بابتسامة قائلا: إنه «الدينار» ذلك الزلزال الذي يهز الأرض ويهد الجبال والعقار، هل يستطيع مرشحك الذي ستختاره أن يقاوم دنانير الحكومة وزلزالها، أو عروض أحد مراكز الزلازل، هذه الزلازل تزيغ الأبصار، وتسيل اللعاب، وتذيب المبادئ، لكن تلك الزلازل لا تهز من يخاف ربه بالسر والعلن ولا تقدر عليه، إنه يخاف من عذاب القبر، ومن حساب يوم القيامة، وأضعف الإيمان يخاف على سمعته، ومن وراءه ذرية وعائلة وقبيلة وطائفة، التاريخ لا يرحم، والأثر لا يمحى، وبرنامج جوجل لا ينسى، نسأل الله أن يشرح صدورنا، ويبصرنا ويرشدنا لما فيه مصلحة الوطن والمواطنين، اللهم احفظ وطني من الزلازل والفتن ما ظهر منها وما بطن.
[email protected]