في قلب الصحراء العربية وفي أقصى شمال اليمن، حيث قرية الغرزة التابعة لمديرية حرض بمحافظة حجة، التي تبعد عن الحدود السعودية نحو 6 كيلومترات مربعة ولد الطفل فارس يحيى، صاحب الـ 7 سنوات، حيث يعيش مع أمه الأرملة، وأخيه الأصغر منه، واثنتين من الأخوات البنات.
عاش فارس وإخوته في ظلال اليتم وتحت أجنحة قهر الحاجة، مقيدين بأغلال صعوبة الحياة والمعيشة، وتبعات تدني جودتها، فوقع على عاتق فارس بحكم ترتيبه بين إخوته فهو الأكبر من بينهم، جلب الماء لهم من آبار القرى المجاورة، التي تقطع لها المسافات على صحراء أرضها الرملية، ركوبا على ظهر الحمير التي تحمل بالكاد «جركنين» من الماء، وهو ما يشق على الكبار فضلا عن هؤلاء الصغار، وفي أحسن الأحوال تقطع هذه المسافات ركوبا على عربات تجرها الحمير وهو ما يشق أيضا على الحيوانات.
ففي ظل نقص الماء والغذاء للبشر والحيوان جميعا، تبقى مشقة ومخاطر هذه الرحلات التي يقطعها الرجال والأطفال والنساء بصورة يومية أو شبه يومية للحصول على الماء، ليست واقعة على الإنسان فحسب، إنها تقع أيضا على ظهر الدواب والحمير التي تحمل الناس وتحمل «الجراكن» إلى أماكن ملئها حيث المياه والآبار، وحيث لا تستطيع تلك الحمير الحصول على ما يكفيها من المياه، مما يشق عليها مواصلة المسير أو الرحلة لجلب المياه للإنسان.
هذا هو ما حدث مع الطفل (الرجل) فارس في احدى رحلاته على ظهر حماره لجلب الماء من إحدى القرى المجاورة لأمه الأرملة وإخوته الأيتام، فبسبب نقص الماء وقلة اعتناء بحماره، لأن الإنسان لم يعتن بضروراته أولا فيفيض اعتناءه على الأنعام والدواب من حوله، لم يقو حمار فارس على حمل الماء، فوقع الحمار ميتا في رحلة رجوعهما إلى البيت بعد أن تحمل فارس والحمار مشقة الرحلة على الرمال والقيام بملء «جركنين» من الماء، وتحميلهما على ظهر الحمار.
لم يتحمل فارس مشاهدة حمارهم الذي يساعدهم في جلب أهم سبب ضروري لبقاء الإنسان على قيد الحياة (شرب الماء)، وهو يموت، فجلس الطفل على أحد «جركنيه» يبكي، بجوار الحمار الذي يفارق الحياة، ولسانه حاله يقول من سيجلب لنا الماء بعد اليوم؟
قام هذا المكافح الصغير الذي لم يستسلم لهذه الحال وحاول أن يقوم بدور الحمار، عن طريق ربط جراكن المياه بالحبال وجرها على الرمال، فعلى الرغم مما في هذه المحاولة من شهامة وبطولة وإحساس بالمسؤولية المبكرة، إلا أن لها وجها آخر.
فبالإضافة إلى ما فيها من مشقة وخطورة على الأطفال، بل حتى على الرجال الأشداء، يتمثل الوجه الآخر لهذا التصرف في قراءته على أن الطفل قد أصابته الحسرة واليأس ومشاعر تبدد أحلامه في المكابدة والكفاح من أجل الحصول على ما يكفيه ويكفي إخوته ووالدته من الماء.
تخيل أن بئرا واحدة تستفيد منها أربع قرى، يسكنها ما يقارب ثلاثة آلاف شخص، أي نحو 700 أسرة مستفيدة من القرى المحيطة، والتي تبعد كل منها عن البئر مسافة واحد كيلومتر ونصف فقط.
تخيل سهولة حصولنا على نعمة الماء الذي جعله الله سببا في حياة الأحياء، حيث تأتينا إلى منازلنا ومجالسنا وأسرتنا بدون أي جهد منا ولا حيلة، وهذه نعم أخرى، تخيل ذلك في مقابل ما يقاسيه هؤلاء من أجل الحصول على قطرات من الماء تكفيهم ليوم واحد أو يومين. ألا يستوجب ذلك شكر الله على هذه النعمة وتلك الأفضال.
إن شكر النعم وشكر الله إنما يكون بأداء حقوق تلك النعم، ذلك الأداء الذي يسهم في حفظها علينا، يقول تعالى: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون).