يعرف عصر هارون الرشيد بالرخاء الاقتصادي وتوسيع الخلافة الإسلامية، لكن نادرا ما يتم تسليط الضوء على هارون الرشيد العالم، الذي بمجهوده أصبحت اللغة والحضارة العربية المرجع الرئيسي للعلم، فهو الذي من شدة حبه للعلم أنشأ مكتبة للترجمة في قصره، قصر الخلافة، كانت مهمتها الرئيسية هي ترجمة العلوم بكل أطيافها، ومن ثم توسعت المكتبة التي سميت «دار الحكمة» لتصبح مركزا للدراسات ومعهدا للعلوم ونبراسا يضيء العالم بنور العلم، في حين كانت أوروبا تترنح في عصور الظلام، والكنيسة تحارب كل من يبحث ويستنتج ويتعلم ما لا تريد الكنيسة أن يتعلم.
دار الحكمة التي ضاقت برقع الجلود، فكرت في طريقة أخرى لحفظ العلوم فاستوردت الورق من الصين، واكتشاف الورق ونشره كان عبارة عن نقلة ثورية في العلم، فسهل بهذا الفعل انتشار العلم ليس في الحضارة الإسلامية فقط، إنما في كل أرجاء العالم الذي تعلم صناعة الورق من العرب، وبعد ازدهار هذه المكتبة، بدأت بولادة مكتبات أخرى في كل الولايات الإسلامية، فجعلت العلم يروي كل من لديه شغف بجميع أرجاء الحضارة، وكانت تعطي للمترجم وزن الكتاب الذي ترجمه ذهبا، فتحفّز المترجمون وزاد إنتاجهم، ونشط التجليد والتغليف والنسخ، فأصبح العلم متيسرا للجميع، ولذلك كانت دار الحكمة هي الأساس الذي جعل العلم يتحدث العربية، وبفضلها ظهر لدينا العلماء الإسلاميين الذين نفاخر بهم الأمم حاليا.
لم تكن هذه الطريقة في تطوير العلم وسيادته مقصورة على الحضارة الإسلامية، إنما هي نفس الطريقة يكررها التاريخ باختلاف الأماكن والأزمنة والمسميات، فكل حضارة تبدأ بازدهار الترجمة ثم تنتشر العلوم بين أفرادها ثم يظهر لديهم علماء يبنون هذه الحضارة، وتدخل هذه الحضارة في عصرها الذهبي كنتيجة لمجهودات أفرادها.
إذن الترجمة والمترجمون هم الأداة الوسيطة، للتواصل بين ثقافة وأخرى، فإن أردت تدمير مجتمع فهمّش مترجميه، فيقل الاحتكاك الثقافي وتندر المعلومات الحديثة ويتقوقع المجتمع على نفسه، والمترجمون هم قلب الحضارة الذي يبث العلوم في أرجائها ويوسع مدارك ومعلومات رجل الشارع، لينتج بدوره أبناء علماء.
قد يكون وضع المترجم في العالم العربي الأسوأ على سطح الأرض، فمراكز الترجمة الحكومية في الكويت وغيرها من دول العالم العربي (إلا ما ندر)، قائمة على أسس المحسوبية والواسطة، ودور النشر تطلب من المترجم ترجمة كتب تجارية، تعتمد على جذب القارئ العادي غالبا، والمردود لهذه الترجمات لا يسوى تعبه، فالكتاب متوسط الحجم الذي يستغرق ترجمته أشهر يأخذ المترجم عليه ما يقارب 600 دينار، لذلك لا تجد من جيل الشباب الحالي من هو مهتم بالترجمة إلا اليسير، فمقياس دعم المترجم في الكويت يعتمد على معارفه، وليس على جودة ترجمته وعلمه ومعرفته، وفي نفس الوقت فرق الترجمة في الكويت والعالم العربي عموما تكاد تكون معدومة، فالعالم حاليا لا يعتمد عل ترجمة الفرد الواحد، خصوصا في المجالات العالمية الدقيقة، ويكون هناك فريق للترجمة والتدقيق لكل شاردة وواردة وتوحيد مسميات حتى يخرج الكتاب المترجم مقاربا بشكل كبير للكتاب المكتوب بلغته.
على سبيل المثال مترجم اللغة اليابانية، وهي من اللغات المهمة النادرة في هذا المجال، لن يجد أي مكان مؤسسي في الكويت يدعم الترجمة من هذه اللغة، وهذا بسبب الترهل والفساد الحادث في هذه المؤسسات، رغما عن أن اليابانية تعتبر أكثر لغة في العالم متميزة في علم الإدارة والاقتصاد وغيرها من العلوم التي تتميز فيها اليابان دون غيرها، وما يترجم من اليابانية إلى اللغة العربية يكون مترجما من الانجليزية، فتضيع المعاني وتحرف حسب فهم المترجم الإنجليزي لها وتكيفها مع ما يتناسب مع ثقافته وبعد أن تلقى رواجا في الغرب، ويمر عليها السنون تتم ترجمتها إلى العربية.