بقلم: د.راشد العليمي
من الأعمال الغريبة التي ظهرت على المجتمع الاسلامي كافة وليس العربي فقط، بل وصلت بفعلها الى المسلمين في أوروبا وغيرها، قضية التداعي وحث الناس عند موت أحد من المسلمين، الى عمل مشروع خيري له، فيتم نشر رسالة (عبر الواتساب) مثلا للتبرع الى هذا الميت بعمل مشروع خيري، مثل حفر بئر، أو بناء مسجد، أو طباعة مصحف أو غيرها من الأعمال الشرعية.
وقضية إهداء ثواب الأجر من الأحياء للأموات من القضايا المختلف فيها بين العلماء، لكني وفق الصورة التي انتشرت بيننا ومن وجهة نظر، بما رأيت من الأدلة الشرعية أقول: إن هذا الأمر بهذه الصورة محدث والواجب تجنبه، لأسباب كثيرة:
كان يموت الكثير من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم نقرأ أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدا من الصحابة رضي الله عنهم دعوا الناس للتبرع لأحد من أموات المسلمين.
وكذلك ما حدث سببه في زمن النبوة أو الخلفاء الراشدين ولم يعملوا له شيئا، وكان المقتضى موجودا له، عرفنا أن الحكم فيه عدم فعله.
كما دل النبي صلى الله عليه وسلم أمته على فعل الخيرات وتقديم التبرعات، لكن لم نقرأ أنه أرشدهم الى إهداء الأجر للأموات، فبعد موت خديجة أو حمزة أو جعفر من آل بيته، أو حتى من أصحابه رضي الله عنهم لم نجد أنه صلى الله عليه وسلم دعا الناس للتبرع لهم بمشروع يناسبهم.
وبذلك فإن إهداء الثواب يعني أن يتنازل إنسان عن حسنات له جارية، وفي الحقيقة هو بحاجة لها عند ربه، فنجده يقدمها لغيره، ولا أتصور أن هناك عاقلا يكون كريما بحسناته ويفعل هذا.
فإذا كان الانسان بحاجة لكل حسنة يوم القيامة، والحال يوم القيامة (فإذا جاءت الصاخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه (37))، فهل سيكون يا ترى كريما معهم في الدنيا ويعطيهم من حسناته؟
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأعلم بمصلحة أمته - أن يبادر المرء في حياته لفعل المشاريع والأعمال فيها كسب لحسنات جارية ولنفسه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته» ولم يدلنا أن نبادر لعملها للأموات.
وعلينا أن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الانسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وهذا كله من كسب الإنسان.
ومن الحديث السابق نستفيد فائدة شرعية كبيرة أن أفضل صدقة نقدمها للأموات هي (الدعاء)، ولو كان هناك أفضل من الدعاء لدلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان دعاء الإنسان لغيره لا ينقص من أجره شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك مُوكّل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل».
وحقيقة الاهداء للأموات معناه أن من يهدي الحي الى الميت حسنات المشروع الذي هو تبرع به، وليس للحي بعد ذلك من الأجر إلا أجر الاهداء المنقطع، أما الحسنات الجارية المستمرة فهو قد تنازل عنها للميت، قال الشيخ بن عثيمين: «فأما ما يفعله كثير من العامة اليوم حيث يقرأون القرآن الكريم في شهر رمضان أو غيره، ثم يؤثرون موتاهم به ويتركون أنفسهم، فهو لا ينبغي لما فيه من الخروج عن جادة السلف، وحرمان المرء نفسه من ثواب هذه العبادة، فإن مهدي العبادة ليس له من الأجر سوى ما يحصل من الإحسان الى الغير، أما ثواب العبادة الخاص فقد أهداه».
من ينشر رسالة واتساب لجميع من يعرفهم للتبرع لوالده، فإن هذا السلوك دال على تصرف غريب يمكن وصفه (بالتسوّل) من الناس، فهل يليق بالمسلم أن يكون كذلك؟
ثبت في الشرع أن سعد بن عبادة، فعل الخيرات لوالدته، أي من حر ماله، حيث إنها ماتت وهو غائب عنها في الجهاد، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم»، فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها. وقال هنا إن هذا من فعل الأولاد لوالديهم، ولم ينشر بين الصحابة رضي الله عنهم الــدعوة للتبرع للعامة.
ونرى بعض الناس يظن أن من دلالة المحبة لصديق أو جار ميت حيث الناس للتبرع له، بل وجدت أن هناك من يحث الناس للتبرع لوالده، الذي كان ثريا لكنه بخيل في حياته ولم يفعل شيئا لنفسه من الخيرات، فالسؤال: لماذا يبادر الناس للتبرع له؟
هذه القضية ستجعل بعض الناس لا يبادر للتصدق عن نفسه في حياته، ولربما تتوقف المشاريع الوقفية، والصدقات الجارية بحجة أن الناس سيتبرعون له، والصحيح مبادرة الإنسان لنفسه في حياته، فجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟
قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى اذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان».