إن العراق وأهله كانوا الهوى
فإذا نأى بي ودهم فليبعد
كان للعراق في قلب هذا الشاعر منزلة كبيرة ولكن هذا الحب غيّره ظرف قاهر فلم يعد للعراق منزلة عنده ففارقه بلا أسف ولا ندم فلماذا؟ وقبل أن أجيب أود أن أقول لكم إن الشاعر هو المتلمس الضبعي وهو جاهلي العصر توفي قبل البعثة بأربعين سنة ونيف، ومن قصة هذا البيت المشهور أن المتلمس وهو جرير بن عبدالمسيح بن عبدالله نادم الملك عمرو بن هند اللخمي ومعه ابن أخته طرفة بن العبد وكلاهما شاعر متقدم فشبب طرفة بأخت الملك ثم هجاه فأضمر الملك لهما الشر وأحس المتلمس بذلك فحذر طرفة فلم يقبل تحذيره وقال: لا يجرؤ علي، فكتب الملك إلى عامله في البحرين كتابا وأعطاه طرفة وأوهمه أنه كتب لهما بصلة وأعطى المتلمس كتابا آخر فخرجا متوجهين إلى البحرين وفي الطريق أوجس المتلمس خيفة من الكتاب ولم يكن يقرأ ويكتب، ففض كتابه وأعطاه غلاما من أهل الحيرة يقرأه فإذا مكتوب فيه: باسمك اللهم، من عمرو بن هند إلى المكعبر، إذا أتاك كتابي هذا من المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا، فقال المتلمس لطرفة: تعلم والله أنه كتب فيك بمثل ما كتب في، فقال طرفة: كلا والله، إن كان يجرؤ عليك فإنه لا يجرؤ علي، فرمى المتلمس كتابه في النهر وقال:
إن العراق وأهله كانوا الهوى
فإذا نبا بي ودّهم فليبعد
فلتتركنهم بليل ناقتي
تدع السماك وتهتدي بالفرقد
تعدو إذا وقع الممر بدفها
عدو النحوص تخاف ضيق المرصد
فنجا المتلمس وقتل طرفة، وقد ذكر ابن السكيت في كتاب الأمثال أن المتلمس صاحب الصحيفة أشعر أهل زمانه، وقال الأصمعي: «المتلمس من الفحول، ومن أبياته السائرة والمشهورة قوله:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
وما كنت إلا مثل قاطع كفه
بكف له أخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه
فلم تجد الأخرى عليها تقدما
ومن فائق شعره ونادره قوله:
وأعلم علم حق ليس ظن
لتقوى الله من خير العتاد
وحفظ المال خير من فناه
وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه
ولا يبقى الكثير مع الفساد
ويعجبني قوله:
فإما أن تكون أخي بصدق
فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني
عدوا أتقيك وتتقيني
والمتلمس من أهل البحرين وشعره كله جيد، وكانت له منزلة عند ملوك زمانه وأكتفي بهذا القدر، وأترككم في رعاية الله.