بيروت - جويل رياشي
تسييل أو كسر الحسابات.. كلمتان يرددهما الكثير من اللبنانيين هذه الأيام، في إشارة الى إقبال كثيف من مودعين يصنفون من كبار العملاء المصرفيين، على إخراج ما تيسر لهم من أموالهم عبر شيكات يقبضون قيمتها نقدا، قيمة تحدد وفق «السعر اليومي لسوق الشيكات»، وهذه عبارة تتداول بقوة ايضا وبات تبيان قيمتها يحدد الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر كل يوم، ويتم على أساسها «تسعير» التداول لبقية ساعات النهار.
الـ 100 ألف دولار شيك يتراوح سعرها بين 32 ألفا و34 ألفا نقدا وفقا لسعر السوق. وقد هبط السعر تلازما مع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، السوق الوحيدة المتاح فيها الحصول على العملة الخضراء في لبنان.
هبط السعر من نسبة 38% الى 33%، وهو يتأرجح وفق العرض والطلب، علما ان الطلب يرتفع على النقد من العملة الأميركية.
ويبقى السؤال: أي مغامر يقدم على التخلي عن دولاراته النقدية مقابل الحصول على شيكات؟ والجواب يكاد ينحصر بتجار الجملة من الخضار والتبغ والمشروبات الذين يحصلون عملة بالليرة اللبنانية، ويبادرون الى شراء دولارات نقدية من السوق السوداء، وبيعها مقابل شيكات يشترطون عدم تكبير حجمها، اي يطلبون تجزئة شيك بقيمة 100 ألف دولار أميركي عبر خمسة شيكات قيمة كل منها 20 ألفا. ويتمكنون عبر الخطوة الأخيرة من بيع الشيكات بالتجزئة الى مودعين صغار يتعاطون تجارة الشيكات لتحصيل عائدات بالليرة اللبنانية مستفيدين من سعر المنصة الرسمية المصرفية التي تتيح لهم سحب الدولار الأميركي بسعر 3900 ليرة، وفق سقوف محددة للحسابات.
وفي جانب آخر، يستفيد التجار من تغطية عملياتهم عبر الدولارات المدعومة من مصرف لبنان، لبعض المواد الغذائية والمشتقات النفطية والطحين.
هذه التجارة لجأت إليها بعض المصارف ببيع شيكات الى الصرافين مقابل الحصول على أموال نقدية، مصارف تحولت الى تعاطي أعمال صيرفة بدلا من عمليات مصرفية، في سوق مصرفية لبنانية عرفت اضطرابا أين منها أزمة بنك انترا الشهيرة في ستينيات القرن الماضي، والتي تمكن القطاع المصرفي اللبناني تجاوزها ولعب دور «بنك الشرق»، الأمر غير المتاح هذه الأيام وفي الآتي منها.
في العمليات الميدانية، يقبل تجار على شراء الشيكات والدفع نقدا. والطريق إليهم تمر عبر وسطاء متمرسين، يتشددون في معرفة أهلية الزبون النقدية تفاديا لـ «أوجاع رأس» جراء شيكات غير قابلة للتحصيل. ومتى تم التأكد وأنجزت العملية الأولى، يرتاح البائع والشاري، وينطلقان في عمليات طويلة الأمد، وصولا الى حلقة شبه مقفلة تتم دائما خارج المكان المعهود حتى الأمس القريب، والذي كان يعرف بالنظام المصرفي اللبناني.
وفي مقابل التأكد من أهلية صاحب الشيك، يقوم البائع اي التاجر والذي يرسل غالبا وسيطا لإجراء العملية بعرض الدولارات النقدية وتمريرها عبر ماكينة صغيرة لتعدادها والتأكد من عدم وجود أوراق مزورة فيها. وبعد العملية الأولى تتعزز الثقة وتنطلق عمليات عدة. ويتولى صاحب الشيك تأمين رفاق له لإنجاز أعمال مماثلة مع التاجر.
أحد الزبائن، وهو اشترط بالطبع عدم ذكر اسمه، تحدث لـ «الأنباء» عن «تأميني تاجرين، أحدهما يتعاطى تجارة الخضار والآخر تجارة التبغ. كل منهما في منطقة. الأول في جبيل والثاني في الحمراء بالعاصمة بيروت. وهكذا استطيع ضمان حصولي على دولارات نقدية أتمكن عبرها من حفظ مدخراتي ولو على طريقة بأقل خسارة ممكنة من جهة، وأنجز أيضا أعمالي التجارية في المقاولات من جهة أخرى».
حكايات مماثلة لزبائن عدة، بينها لمقيم في دولة عربية اختار طوعا سحب مدخراته من مصرف لبناني بنسبة 35%، ووضعها في مصرف أجنبي أوروبي خارج بيروت.
سوق جديدة تنضم إلى يوميات لبنانية زاخرة بتعثر مالي ونقدي بعد 17 أكتوبر 2019 تاريخ اندلاع احتجاجات غير مسبوقة في لبنان، وتزامنا مع إعلان المصارف عن إجراءات أحادية وضعت فيها سقوفا للسحوبات وحجبت الدولارات النقدية عن مودعيها، وحصرت حصولهم على العملة الخضراء بتلك المرسلة إليهم من الخارج والتي أطلق عليها اسم «الدولارات الطازجة».
نظام مصرفي يتداعى وينتقل إلى نظام صيرفي، مع ترداد ان مطلع 2021 سيشهد المزيد من التداعيات السلبية. وفي الانتظار، يلجأ اللبنانيون إلى طرق تعينهم على مواجهة يوميات غير معهودة في تاريخهم الحديث.