جاء اغتيال الباحث والمفكر والناشط لقمان سليم مدويا وصادما، الى درجة ان حدث الاغتيال ألغى كل ما عداه وفرض الوضع الامني اولوية على الوضعين الاقتصادي والصحي. هذا الاهتمام المفرط، وهذا الدفق من ردود الفعل المحلية والخارجية (لاسيما من فرنسا والولايات المتحدة) يعودان الى الاسباب التالية:
1 ـ لقمان سليم في حد ذاته كشخص مميز ومتمايز داخل البيئة اللبنانية والشيعية، هو باحث وناشر وناشط سياسي، مثقف جريء في التعبير عن أفكاره، شخصية لبنانية بما للكلمة من معنى عميق، والده المسلم الشيعي محسن سليم (النائب السابق والحقوقي وعضو الكتلة الوطنية أيام ريمون اده) ووالدته المارونية، وزوجته الالمانية، وتحصيله العلمي في فرنسا (جامعة السوربون) كل ذلك ساهم في صنع وبلورة شخصية لقمان سليم.
2 ـ طبيعة الاغتيال الذي لا يمكن وصفه إلا بـ «الاغتيال السياسي»، وهذا ما ادى الى ايقاظ هاجس الاغتيالات السياسية واحتمال عودة هذا المسلسل المرعب الذي كان توقف منذ سبع سنوات (آخر اغتيال سياسي كان للدكتور محمد شطح).
3 ـ انه «الاغتيال السياسي الاول» لشخصية شيعية معارضة بعدما كانت الاغتيالات او محاولات الاغتيال في الفترة الممتدة من العام 2004 الى العام 2013 استهدفت شخصيات درزية (مروان حمادة) وسنية (اولهم الرئيس رفيق الحريري) والمسيحية (ابرزهم الوزير بيار الجميل)، ولذلك فإن الشيعة المعارضين لحزب الله وحلفائه اعتبروا انفسهم معنيين مباشرة بهذا الاغتيال الذي يهدف الى إسكاتهم وترهيبهم، وهذا ما عبّر عنه النائب السابق باسم السبع ود.منى فياض.. يضاف الى ذلك انه اول اغتيال يطول رمزا من رموز ثورة 17 أكتوبر ويعكس تركيزا على طبقة قادة الرأي العام التي صار تأثيرها اكبر من القيادات السياسية.
4 - مؤشر مقلق على اتساع حجم الاختراق والانكشاف في الوضع الامني الذي سجل منذ بداية العام تسارعا في وتيرة الاحداث الامنية المتنقلة، وكان ابرزها احداث طرابلس وعمليات القتل والسرقة والجرائم المنظمة في منطقة البقاع. وترافق ذلك مع عودة «شبح» داعش وهاجس تسلله مجددا الى لبنان بعد ظهوره في سورية والعراق، بعد اعلان مخابرات الجيش عن توقيف خلية ناشطة في عرسال تضاف الى خلايا صغيرة اوقفت نهاية العام الماضي في الشمال.
5 ـ الخروقات المتسارعة والمتشعبة في الوضع الامني تزيد من خطورة الوضع وتعقيداته وتعمّق حال الانهيارات التي لم تعد مقتصرة على المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتي ضربت مستويين في الفترة الاخيرة: المستوى السياسي مع تمادي ازمة الحكومة وارتفاع منسوب التوتر السياسي بسبب الاحداث الامنية.. والمستوى الامني مع اتفاق درجة المخاطر وتعزز احتمال ان يخسر الوضع اللبناني نقطة قوته الاساسية المتبقية وهي «الأمن».
6 - هذا الاغتيال هو من نوع الاغتيالات غير العادية التي تحمل رمزية معينة وتكون مؤشرا الى مرحلة جديدة ومقدمة من مقدماتها، وسمة هذه المرحلة احتدام الصراع الداخلي واستخدام كل الوسائل المتاحة بما في ذلك الاغتيال السياسي والتطرف السياسي والطائفي والعنف «الشارعي».
السؤال الثاني و«البديهي» الذي طرحه اغتيال لقمان سليم: من يقف وراء الاغتيال؟ ومن هي الجهة القادرة على اخذ هذا القرار «المكلف والجريء»؟!
من الطبيعي ان تتجه الانظار واصابع الاتهامات اولا الى حزب الله، ولم يكن من المفاجئ ان يسارع خصوم الحزب في الداخل الى توجيه اتهامات صريحة ومباشرة للحزب ومن دون انتظار التحقيقات، وليس فقط لأن لا ثقة بالسلطات والاجهزة الامنية والقضائية، وانما لأن هذه الجريمة تحمل توقيعا واضحا وحيثياتها واضحة: لقمان سليم معارض ثابت وشرس لحزب الله، وسبق له ان كشف عن تهديدات ومضايقات تلقاها بعد مشاركته الناشطة في ثورة 17 أكتوبر، والاغتيال حدث في مناطق نفوذ الحزب، وبالتالي فإن حزب الله متهم ومدان الى ان يثبت هو العكس بخلاف القاعدة القانونية التي تقول «ان المتهم بريء الى ان تثبت ادانته»، وبمعنى ان على حزب الله تقع تبعة اكتشاف الفاعلين وليس على الدولة وان كل جريمة لا تكشف تحسب عليه.
ولكن في المقابل يستهجن حزب الله عبر اوساطه هذا الاتهام ويسخر من «سطحيته وهزالته»، ويبدي استياء وقلقا من محاولات الاستغلال والاستثمار السياسي لهذه الجريمة. من جهة ليس الحزب ساذجا الى درجة ان ينفذ اغتيالا يحمل توقيعه المسبق، ولماذا يقتل لقمان سليم الآن وهو الذي يعيش في الضاحية الجنوبية ويتعايش معه منذ عقود؟ ولماذا يقتله في مناطق نفوذه وتحديدا في الجنوب؟ من جهة ثانية توحي حملة الردود السريعة بعد الاغتيال الى وجود جريمة منظمة واغتيال مدروس في تنفيذه وفي المفاعيل التي ينتجها والرسائل التي يحتويها.
السؤال الثالث يتعلق بالاطار السياسي الذي تندرج فيه جريمة الاغتيال من حيث التوقيت والظروف المحيطة والنتائج المترتبة. هنا ايضا تبرز نظريتان وقراءتان على صلة بالتطورات الاقليمية ومن خلفية المرحلة الجديدة في المنطقة:
الاولى صادرة عن اوساط قريبة من حزب الله او تدور في مداره السياسي وفحوى هذه القراءة ان التغيير الحاصل في الولايات المتحدة مع تسلم الادارة الجديدة رئاسة جو بايدن احدثت حالة قلق واضطراب لدى خصوم ايران حلفاء اميركا الذين يرقبون بقلق العودة الاميركية الى الاتفاق النووي ومعها بروز احتمال صفقة اميركية ـ ايرانية تطيح بما تحقق من مكاسب مع ادارة دونالد ترامب.
ولذلك انطلق هؤلاء في حملة تشويش وتخريب على هذه الاحتمالات والاجواء الاميركية ـ الايرانية. والترجمة العملية حصلت في تكثيف الغارات الاسرائيلية على سورية وفي اعادة تحريك ورقة داعش في العراق، وتحريك الوضع على الارض في لبنان والتوتير الامني على النحو الذي حصل في طرابلس في اطار الضغوط على حزب الله والسلطة الحليفة والتحريض ضده وتأليب الرأي العام اللبناني والبيئة الشيعية عليه.
النظرية الثانية المضادة والمناقضة تماما للاولى تدرج عملية اغتيال لقمان سليم في اطار عملية هجوم مضاد بدأته ايران في المنطقة مفتتحة مرحلة جديدة من التشدد والتحكم اكثر بالاوراق ومفاتيح اللعبة قبل الجلوس على طاولة المفاوضات والصفقة الشاملة مع الولايات المتحدة.. ايران التي مارست سياسة ضبط النفس والصبر الاستراتيجي العام الماضي، تحولت بعد زوال «كابوس ترامب» الى سياسة الهجوم لاختبار ارادة وقدرة بايدن من جهة ووضعه امام معطيات ووقائع جديدة من جهة ثانية تجعله غير قادر على استخدام الواقع الذي احدثه ترامب والانطلاق منه في المفاوضات المقبلة وكورقة ضاغطة.
وهذا التوجه الايراني ترجم منذ تسلّم بايدن في العراق من خلال زيادة حجم الضغوط السياسية والامنية على حكومة مصطفى الكاظمي وعلى الوجود الاميركي وفي لبنان من خلال العودة الى الورقة الامنية ورفع درجة الضغوط على خصوم حزب الله ومعارضيه والتشدد في موضوع الحكومة وحمل سعد الحريري على الامتثال لشروط حزب الله وميشال عون.
الاسئلة التي تطرحها عملية اغتيال لقمان سليم كثيرة وواضحة، والاجوبة قليلة وغامضة: من قتله ومن المستفيد؟ هل حزب الله مأزوم وخائف الى درجة لم يعد يتقبل أصواتا معارضة داخل بيئته ام يشعر بفائض ارتياح وقوة بعد ذهاب ترامب الى درجة لا يجد حرجا في تنفيذ اغتيال كهذا، ام ان حزب الله يواجه حملة منظمة ضده ومرحلة شبيهة بمؤشراتها الداخلية بمرحلة 2004 - 2005 وما بعد ولكنها مختلفة في مؤشراتها وظروفها الاقليمية والدولية؟!