الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها، وقد علمنا الله سبحانه أن نعتبر ونتعظ، لذلك سأنتخب قصة معبرة عن الصدق ومفعمة بالبصيرة والصبر عبر رحلة ألم ومعاناة انتهت إلى إنجاز رائع ونجاح مبهر، إنها رحلة استمرت بعزيمة صلبة وصبر لا متناهي وإرادة حرة لا تعترف بأي حدود أو أسوار أو خنادق ولقد بدأت هذه القصة في السابع والعشرين من شهر يونيو للعام 1880 ميلادي حينما ولدت هيلين كيلر في مدينة الاباما الأميركية، وكان حينها والدها جنديا خاض لتوه جحيم الحرب الأميركية الأهلية ثم عاد من المعارك ليعمل في الصحافة، وقد أعطاه الله «هيلين» التي ولدت وهي مريضة مرضا كاد أن يودي بحياتها لكنها تماثلت الشفاء بعد أن فقدت حاستي السمع والبصر، فأصبحت طوال حياتها أسيرة السكون والظلام عاجزة عن اللعب وغاضبة متنمرة، وكان من الممكن أن تستمر كذلك إلا أنها قررت الخروج من ذلك السجن المزدوج المرعب عندما قررت أن تتغير، وقيض الله لها معلمة خاصة هي آن سوليفان التي أبدعت في تعليم هيلين وتهذيب ما كانت عليه من سلوكيات غوغائية وغضب مدمر.
كانت آن سوليفان مثالا للمعلمة الصبورة البارعة المخلصة لمهمتها التي ارتكزت على هيلين الفتاة المسكينة التي تاهت بسبب الغضب والألم، لكن بفضل حكمة سوليفان استعادت هيلين توازنها واكتسبت لغة التواصل التي فتحت لها آفاق النجاح والتألق في مجالات الأدب والتعليم وصنعت أجيالا رائدة حققت نهضة في مجتمعها بل وصارت أيقونة للتحدي والتغلب على العوائق التي تهدر قيمة الحياة الإنسانية.
إن النجاح لا يكون بالتذمر والتنمر بل يكون بالعمل والحكمة والتعاون، فقد خلقت تلك المعلمة من الفتاة اليائسة نجمة لامعة في سماء الثقافة والمعرفة وكاتبة مثقفة عميقة.
وبعد أن كانت هيلين تصارخ وتضرب رفيقاتها تعلمت أن تحترم الآخرين وتهذب سلوكياتها وذهبت إلى المدارس ومن ثم إلى الجامعة وتخرجت فيها في يونيو 1904 بمرتبة الشرف الممتازة ولما كانت هيلين لا تعترف بالحدود، فقد فاقت قريناتها وأصبحت تدرس وتعلم وتكتب المقالات والكتب وتحاضر، وصار لها دور بارز في دعم أعمال الخير التي تخدم الصم والمكفوفين، حتى انها قامت بأداء فن التمثيل وتجاوزت شهرتها مدينتها وبلادها، وهكذا أصبحت هيلين شخصية عالمية وظلت تعمل إلى أن وافتها المنية في عام 1968 عن عمر ناهز الثمانية والثمانين من العمر، أعوام زينتها بالإنجاز وصناعة النجاح في كل لحظة، لقد قالت ذات يوم «إذا ما أغلق باب للسعادة فتح باب آخر، ومن العجب أن نظل محدقين في الباب المغلق ولا ترى أعيننا الباب المفتوح».