قبل أسبوع تقريبا من دخوله البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، خطته للتعامل مع الانكماش الناجم عن الوباء، والتي ملخصها أن أميركا ستنفق الكثير والكثير.. والكثير من الأموال، لتحفيز الاقتصاد ودعم المتعثرين بدءا من الأفراد وصولا إلى الشركات.
هذه الخطة السخية رغم شجاعتها وتوقيتها الحاسم في خضم العاصفة الثانية من الوباء، فإنها تنذر بدفع الاقتصاد الأميركي نحو حالة نادرة الحدوث بالنسبة له، ولكنها حتمية كما يرى محللون، ألا وهي «الفوران الاقتصادي».
الفوران الاقتصادي كما نعرفه هو حالة حادة من التضخم تصاحبها عدم كفاية المعروض من المنتجات في السوق، وتنتج بالأساس بعد فترة طويلة من النمو والأداء الاقتصادي المتميز، والذي يتسبب بطبيعة الحال في زيادة الثروة الاستهلاكية وارتفاع الطلب بشكل ضخم وعمل المصانع بكامل طاقتها.
أيضا، قد يصحب الفوران زيادة التضخم رفعا في معدلات الفائدة كمحاولة للحد من ارتفاع الأسعار والسيطرة على الطلب، وقد تكون له تداعيات سلبية، وفقا لـ «أرقام».
لكن هل هذا ينطبق على الحالة الأميركية في الوقت الحالي؟ أليس الاقتصاد بحاجة حقيقية الآن إلى هذا التمويل السخي لإعادة الوظائف المفقودة وتحقيق الرفاهية؟ أم أن الأسواق ستستفيق على تدفقات هائلة من السيولة بمجرد اجتياز الأزمة الصحية؟
خطة ضخمة ولكن
بالنظر عن كثب، يتبين أن الخطة تجمع بين الإنفاق الحيوي على اللقاحات والرعاية الصحية، والإغاثة الاقتصادية اللازمة وغيرها من المنح المثيرة للجدل، وفي قول آخر، يمكن تعريفها بأنها «حافز ضخم ممول بالديون».
وتبلغ قيمة خطة بايدن 9% من إجمالي الناتج المحلي قبل الأزمة، أي ما يقرب من ضعفي حجم حزمة الإنفاق التي قدمها الرئيس باراك أوباما في عام 2009. وهي كبيرة أيضا، بالنسبة إلى النقص في الطلب الذي قد تعاني منه أميركا بمجرد أن تتخطى موجة «كوفيد 19» الشتوية.
إذا جاز التعبير، يمكن القول إن الاقتصاد الأميركي ظل «متجمدا» (بعيدا عن حالة الفوران) لعقود، بسبب الارتفاع الهائل في عدم المساواة في الدخل، وما لم يتم عكس هذا الاتجاه إلى حد كبير، فمن المستبعد للغاية حدوث فوران اقتصادي في أميركا بحسب محللين.
وبالنظر إلى التفاصيل، تتضمن حزمة الإنقاذ التي اقترحها بايدن والبالغة 1.9 تريليون دولار، أموالا للعديد من الأهداف، مثل التعجيل بإطلاق وتوزيع لقاحات كورونا، وإعادة فتح المدارس وتوسيع إعانات البطالة، وإرسال المزيد من المدفوعات النقدية لمعظم الأمريكيين.
ليس هذا كل شيء، فاقتراح الإدارة، عند دمجه مع 900 مليار دولار من المساعدات الوبائية التي تمت الموافقة عليها في ديسمبر، فستكون بمنزلة أكبر زيادة في الإنفاق، سواء من حيث القيمة المطلقة أو بالنسبة إلى عمق الفجوة الاقتصادية في البلاد، من جميع المحاولات في التاريخ الأميركي الحديث.
اقتصاد مشتعل
في الرابع عشر من يناير، قال لاري سمرز من جامعة هارفارد، والذي عمل مستشارا لأوباما وكان حتى ذلك الحين المدافع الأول في العالم عن الإنفاق المقترن بالعجز: «إذا تخطينا أزمة كوفيد، فسيكون لدينا اقتصاد مشتعل».
وللتحديد، هناك 3 أسباب رئيسية للاعتقاد في هذا الأمر، حيث إن الأدلة الناشئة على الانكماش الاقتصادي قد تكون مؤقتة، إلى جانب الحوافز السخية، والسياسة النقدية الاستراتيجية للاحتياطي الفيدرالي.
بالنسبة للدليل على الانكماش السائد اليوم، فقد يكون مجرد فجوة مؤقتة أكثر من كونه ركودا طويل الأمد، إذ لا يزال عدد الوظائف غير الزراعية نحو 10 ملايين، أو ما نسبته 6.3% تحت ذروته قبل انتشار الوباء، على غرار النقص الذي شهدته في عام 2010.
لكن بعد الموجة الأولى من الإصابات العام الماضي، انخفضت البطالة بسرعة أكبر بكثير مما توقع المحللون، وإذا عاد معدل إضافة الوظائف إلى متوسط الوتيرة التي تم تحقيقها بين يونيو ونوفمبر 2020، فستتم استعادة ذروة التوظيف في فترة ما قبل الجائحة خلال أقل من عام.
وما يعزز احتمال الانتعاش السريع هو حقيقة أن الاضطراب الاقتصادي يبدو مركزا في قطاعات معينة، وليس منتشرا على نطاق واسع، وتراجع صافي الوظائف في أميركا خلال ديسمبر، لكن فقط لأن صناعات الترفيه والضيافة تضررت من التباعد الاجتماعي.
وبالنسبة للسبب الثاني المشجع للفوران وهو حزم التحفيز، فقبل ديسمبر بلغ إجمالي الحوافز المالية في عام 2020 نحو 3 تريليونات دولار (14% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2019)، أكثر بكثير من الانخفاض المحتمل في الإنتاج.
تدابير التباعد الاجتماعي تعني أن الكثير من هذه الأموال تتراكم في حسابات مصرفية. بحسب «فاني ماي»، وهي شركة لتمويل الإسكان مدعومة من الحكومة، فبحلول منتصف ديسمبر، تراكم لدى الأميركيين ما يقرب من 1.6 تريليون دولار من المدخرات الزائدة. ومن الصعب معرفة ما قد يحدث لهذه الكومة النقدية من السيولة، لكن إذا اعتبر الناس هذه المدخرات الزائدة «دخلا متأخرا»، فإن تلك النقدية تمثل حافزا لم يتم استغلاله بعد، وستندفع بقوة عند إعادة فتح الاقتصاد بالكامل.
سكين الفيدرالي
إذا أظهر الاقتصاد علامات على حدوث الفوران، يتوقع عادة أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة لتهدئة الأمور. في الواقع، منذ السادس من يناير، عندما فاز الديمقراطيون بمقاعد مجلس الشيوخ الحاسمة والتي قد تسمح لهم بتمرير حافز كبير، ارتفع عائد سندات الخزانة لأجل عشر سنوات من 0.9% إلى 1.1%.
وارتفعت العائدات على السندات المرتبطة بالتضخم بشكل مماثل تقريبا، مما يشير إلى أن مستثمري السندات كانوا يتوقعون معدلات فائدة حقيقية أعلى، وليس مجرد تضخم أعلى، لكن بنك الاحتياطي الفيدرالي يشير إلى أن السياسة النقدية ستظل فضفاضة، وهو سبب ثالث لتوقع الفوران.
وقال رئيس مجلس الفيدرالي جيروم باول، في يناير، إن وقت رفع أسعار الفائدة «ليس وقتا قريبا».كما استخف بفكرة خفض مشترياته الشهرية البالغة 120 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.
ورغم ذلك، يرى آخرون أن الفوران الاقتصادي لا زال بعيدا، فحتى عندما كان معدل البطالة 3.7% في عام 2019، لم يكن هناك أي مؤشر على الإطلاق على هذا الفوران، كما أن عبء خدمة الدين منخفض تاريخيا في السنوات الأخيرة بسبب هدوء الاقتصاد في العقود الأخيرة.
أي خطة إغاثة يجب أن تدفع البطالة إلى ما دون ذلك المستوى لفترة طويلة من الوقت قبل أن يتسنى للاقتصاد المضي نحو الفوران، وفي النهاية يبدو أن السيناريو الأكثر ترجيحا هو موافقة الكونغرس على حافز أصغر مما اقترحه بايدن، وأن الفوران إذا حدث سيكون مؤقتا.