لا يخفى أن كل الثقافات الوطنية تطمح لأن تتطور لكي تصبح ثقافة عالمية على مستوى الإنسانية جمعاء، لذلك فإنها تستبطن في أعماقها الخفية شعورا بأنها الجديرة بالقيادة والزعامة على غيرها، وللأسف فإنه من هنا تنشأ بسرعة صراعات بين الثقافات وتتنافس من أجل أن تتبوأ موقع الصدارة.
لكن كما أنها تنمو بسرعة فإنها تخبو بسرعة أيضا لأنها ستظل محدودة التداول، وهذا الأفق الضيق سيتسبب لا محالة في الانغلاق والاضمحلال والتلاشي، لكننا قادرون على أن ننطلق إلى مستوى اكبر من حيث التأثير، وذلك عندما نجعل ثقافتنا الوطنية ثقافة فاعلة تزيد من مساحات الاشتراك الإنساني وتتخذ من التضامن البشري رسالة وهدفا مباشرا للارتقاء بالأمم الإنسانية جمعاء وتجتهد في علاج مشكلاتها وبلورة تطلعاتها.
إن مثل هذه الثقافة المنفتحة والمتسامحة هي التي تصلح لصنع كل اجتماع بشري لأنها لا تكرس الأنا الفردية ولا تكرس الأنا الجماعية، ومن ثم فإنها تحمي المجتمع من الوقوع في أسر ثقافة الطبقية والاستعلائية والعنصرية.
إن السبيل إلى عالمية الثقافة لا يكون عن طريق محاربة الثقافات الأخرى وإنما عن طريق احترامها والتسامح معها وقبولها والسعي إلى معرفة وتحليل أنساقها المتعددة.
لذلك، فإن ثقافتنا العربية والإسلامية من خلال جوهرها الإنساني يمكن أن تصبح ثقافة عالمية مطلقة واسعة الانتشار والتداول إذا توافرت لها العناصر الآتية:
أ - المعرفة الكاملة بالثروات المعرفية والثقافية التي تحتويها الذات الحضارية.
ب - المبادرة الذاتية التي تتجلى في سعة المثاقفة والتداول الفكري والنقدي مع الثقافات المتعددة والابتعاد عن سوء استعمال النقد حتى لا تكون عملية المثاقفة باباً مشرعا لهدم الأسس المعرفية التي تتكئ عليها الذات، ولا ريب أن هذا سيؤدي إلى خلق انطلاقة مباشرة وفعالة للتكامل.
ج - احترام حالة تعدد الثقافات لأن الاحترام في بعده الثقافي يؤسس لقواعد ومكامن القوة المتوافرة في تلك التعددية.
إن الإقصاء والاستهانة بمساهمات الثقافات الأخرى في المسيرة الحضارية الإنسانية هما العدو اللدود للتعايش والنجاح حضاريا، لذلك فإن عالمية الثقافة العربية لن تتحقق بالذوبان في الثقافات الأخرى ولا من خلال الانغلاق بل لا ريب أن طريق عالمية ثقافتنا يمر عبر الوعي بالخصوصية الثقافية وبضرورة توسيع القواسم المشتركة مع سائر الثقافات.
إن الحوار بين الثقافات من الروافد الأساسية لإثراء كل ثقافة، وهو من القنوات المهمة لدخول الثقافة في رحاب العالمية، لما تشكله عملية الحوار على المستوى الثقافي من تكريس لمفهوم الاحترام لكل منجز ثقافي إنساني بغض النظر عن موطنها الأصلي.
من هنا انطلقت الثقافة العربية والإسلامية إلى كل أصقاع العالم دون أن تستهدف وجود الثقافات الأخرى، إذ لم يسع العرب والمسلمون إلى إقصاء الثقافات الأصلية لكل شعب، بل سعوا إلى التعرف والتكيف واستلهام نقاط الإيجاب والقوة في تلك الثقافات والاستفادة منها لخلق المزيد من التكامل، وهذا دورنا دائما واليوم وغدا.