قال الله تعالى في كتابه العظيم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)، وقال تعالى: (فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين)، وقال تعالى أيضا: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم).
هذه الآيات الثلاث تحدثنا عن صنف من المؤمنين من أهل القلوب المستنيرة بنور التهذيب، وقد بشر الله هذا الصنف وأسماه بـ «المخبتين».
إن الإخبات من الصفات الباطنية القلبية التي تكون في المؤمن بالله والملتزم بعمل الصالحات، فما الإخبات الذي كان يطلبه النبي الأعظم صلى الله وعليه وآله وسلم في دعائه إذ يقول «اللهم إنا نسألك قلوبا أواهة مخبتة منيبة في سبيلك»؟
إن أصل كلمة الإخبات في اللغة قد جاءت من الخبت وهو المكان المنخفض من الأرض، وحيث إن الخفض المادي ينسجم مع الخفض المعنوي فقد استعمل هذا اللفظ في التعبير عن معنى «التواضع»، ولما كانت طبيعة اللغة الإنسانية أنها تجمع بين المتماثلات لفظا ومعنى فقد استعمل هذا اللفظ أيضا في معنى خاص من التواضع ألا وهو التواضع بالخشوع والخضوع للسيد الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك فقد تطور استعمال لفظ الإخبات ليشمل معنى الاطمئنان فـ «المخبتين» هم المطمئنون، ولذلك فإن الإخبات أصبح عنوانا لكل منزلة راقية من منازل الإيمان تحمل في طياتها معاني الاطمئنان والتواضع وحسن اليقين والخضوع والرضا والتسليم لإرادته ومشيئته سبحانه.
إن الإخبات نتاج خالص للسير إلى الله والذي لا يتحقق إلا بإخلاص الطاعة ظاهرها وباطنها لله، فهي علاقة توحيدية خالصة بين العبد ورب العالمين قوامها وجوهرها المعرفة القلبية، وترتكز على تنزيه الله والخشوع والخضوع الكامل والمطلق له سبحانه لأوامره ولإرادته.
لقد منحت البشارة للمخبتين، لأنه بالإخبات يرقى الإنسان إلى مقام التسليم، ولما كان الدين عند الله الإسلام فإن كمال التحقق بالدين الحق هو لمن أسلم وجهه لله.
نحن في رحاب شهر رمضان، فإذا أردنا أن نجعله شهر الإخبات فلابد أن نعمل بقوله تعالى (وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، ولا ريب أن هذه الصفات يجب أن تكون على أرض الواقع وليست دعاوى وأقاويل فارغة، فعندما نذكر الله هل نحن نقوم بإجلاله وأداء حق الطاعة له سبحانه، وهل تعلمنا الصبر -بحق- أم تزلزلت نفوسنا عند أدنى مشكلة؟ وهل نصلي صلاة تبعدنا عن الشك والجهل والفحشاء والمعاصي وتنور أرواحنا باليقين والتوكل؟ ومن بعد ذلك هل مددنا يد العطاء ماديا ومعنويا لغيرنا.
إن الرجوع إلى كنف الله والتأسيس لعلاقة أفضل وأكثر عمقا هو المهمة الكبرى في شهر رمضان شهر اليقظة فلا تجعلوه شهر اللهو والإلهاء.