بعد مشوار حافل بالمتاعب والمصاعب، تخللته المشاعر المتأججة فرحا وحزنا، والأيام رتيبة وصاخبة، ولحظات الجنون المفرط، والهدوء الساكن، تأخذك الحياة على عجل إلى مينائك الأخير، لتمنحك نظرة مودع، أو تبصر فيما حدث ويحدث، لعلك تستفيق من غياب عقلك، وتيهك هائما على وجهك في دروبها المجهولة الوعرة، أو لتعطيك فترة قصيرة محدودة تلتقط فيها أنفاسك المتحشرجة ضيقا قبل أن تغادرها إلى غير عودة، لتبدأ رحلة أخرى مجهولة العواقب، والأخيرة مرتبطة بالأولى «وأنت ونفسك يا بطل!».
التقاعد.. تلك المرحلة الصفرية، سنوات طلن أو قصرن، فهن قصار، الأصدقاء قلة، استنفدهم المسير، وقلصتهم المواقف، كأيام العمر المتناقصة التي لا تتسع لتجربة مزيد من بني البشر، والعقل ينشد الهدوء، والمزاج أحادي القطبية، لا يؤمن بالتعددية، والجسد عطبت أعضاؤه، من صراع أفكار الليل المتوهجة، وخناجر أوغاد النهار المنهكة، فأصبح يعمل بنصف طاقته أو ثلثها.
لكنها الحياة ترفض العدم، والروح كالأرض تأبى الموات، هناك من يرفض المرحلة الأخيرة، خوفا وطمعا، أو جزعا، يبقى مصارعا أيامها والرياح العاتية، مقاتلا حتى آخر أنفاسه، لا يريد لها الانتصار، ولا يريد لروحه الانكسار، يرفض أن يكون منسيا، أو مرثيا قبل موته، ولا يقبل أن يكون «على الهامش» مهمشا، متقاعدا كان أو ممن تمكنت منهم «المعارك اليومية» فأكثرت جراحهم، وأنهكت قواهم، فأوقفتهم على قارعة الطريق رغما عن إرادتهم، لكنهم صامدون كالجبال الصماء شموخا، ينهضون صبيحة كل يوم أكثر إشراقا وحيوية، نظرتهم ثاقبة، وحكمتهم حاضرة، ومشاعرهم المرهفة أرق من قطرات الندى على وردة برية نضرة.
لأولئك جميعا.. تحية وتقدير، فأنتم الحياة المتجددة وقيمها وقيمتها وسر توازنها وديمومتها، وأنتم وحدكم «الطيبون» والذكريات العطرة الخالدة.. دمتم بخير وعافية.
[email protected]