يرى الكتاب الإغريق أن أهم فترة درامية في حياة الإنسان هي الفترة الأخيرة من عمره، لأنها بمنزلة بلورة لمواقفه وتصرفاته ونظرته إلى ما يحيط به من بشر وموجودات، كما يعتقدون أنه لا يمكن الحكم بصدق على موقف إنسان أو تقويمه ببدايته بل بنهايته، فقد تحدث أمور تؤدي إلى تغيير جذري في حياة أي إنسان بحيث تحول مصيره من النقيض إلى النقيض.
وهذا التحول الدرامي الذي تشهده شخصيات ونفوس البشر دائما ما يقف أمامه البعض عاجزين عن فهم أسبابه ودوافعه، ففي سوق الأسهم على سبيل المثال يجد البعض صعوبة في استيعاب كيف أن بعض المديرين التنفيذيين الذين لطالما عرفوا بالكفاءة والنزاهة انتهى بهم الحال متورطين في ممارسات احتيالية ضد المساهمين، وهو ما يطرح فورا تساؤلا شديد المنطقية: كيف انتهى هؤلاء إلى نقيض ما بدأوا منه؟ أو بعبارة أخرى، ما الذي يفسدهم؟
حانت الفرصة!
يحتاج أي موظف أو مدير تنفيذي إلى توافر ثلاثة أشياء بشكل متزامن، لكي يتمكن من الاحتيال على المساهمين، وهي: الفرصة والدافع وأخيرا الاستعداد، والفرصة تأتي في المقدمة، لأنه بدون فرصة لن يستطيع حتى «أحرف» المحتالين أو أكثرهم تحمسا ورغبة في الاحتيال القيام بأي شيء، باختصار الفرصة شرط مسبق وضروري للاحتيال، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف تأتي الفرصة من الأساس؟
يستطيع المدير التنفيذي بحكم صلاحيات منصبه أن يوجد لنفسه فرصة للاحتيال والتلاعب بالبيانات المالية للشركة، وما يساعده على ذلك هو الفصل الكبير الموجود بين الإدارة التي يرأسها والملكية التي ترجع للمساهمين، على سبيل المثال يمكن لكبار المديرين مراقبة موارد الشركة والتحكم فيها لكن في المقابل ليس بوسع المساهمين ذلك.
بشكل ضمني يتنازل المساهمون بحسن نية عن السيطرة للإدارة، وبذلك ينأون بأنفسهم عن الانخراط في تفاصيل الأعمال اليومية للشركة، ويصبح مصدرهم المعلوماتي الوحيد هو التقارير المالية المعدة من قبل الإدارة، وفي غياب أي أساليب رقابية فعالة يمنح هذا الفصل المدير التنفيذي ميزة معلوماتية كبيرة على المساهمين فيما يخص أعمال الشركة ونتائجها يمكنه استغلالها بشكل سيئ إذا أراد.
لدى كبار المديرين معلومات أكثر وأفضل عن الشركات التي يقودونها مقارنة مع تلك التي يمتلكها المساهمون، مما يتيح للمديرين فرصة انتهاج الاستراتيجيات والخطط التي قد تفيدهم على حساب المساهمين، الذين ربما لن يدركوا ذلك أبدا أو يدركوه بعد فوات الأوان.
على سبيل المثال، قد يتخذ المدير التنفيذي قرارا لا يوجد ما يبرره من الناحية التجارية بالدخول في مشروع مشترك أو بالاستحواذ والاندماج أو بالتوسع في أسواق خارجية أو بإطلاق خطوط إنتاج جديدة، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة قوة المدير وارتفاع راتبه لكنه في نفس الوقت سيقلل من عوائد المساهمين الذين تخالف مصالحهم هذا القرار.
هل تمنعهم المكافآت الضخمة من الاحتيال؟
عندما يفتقر المساهمون إلى أي أساليب فعالة تمكنهم من معرفة حقيقة الأداء المالي للشركة أو مراقبة طريقة وكيفية إدارتها يصبح الحاجز الوحيد الذي يفصل بين المدير التنفيذي والاحتيال المالي هو حسه الأخلاقي، لكن غالبا ما ينهار هذا الحاجز بسهولة خصوصا إذا أدرك المدير أنه بإمكانه اتخاذ قرارات وإجراءات تحقق مصالحه الخاصة (التي قد تتعارض مع مصالح المساهمين) دون التعرض لخطر العقاب.
وبالتالي فإن الفجوة المعلوماتية الموجودة بين المدير التنفيذي والمساهمين لصالح الأول توفر للمدير الفرصة للانخراط في ممارسات ضارة تتراوح بين التهرب البسيط والتمتع بامتيازات غير مستحقة إلى الاحتيال والتلاعب بنتائج الشركة، ويعتبر التلاعب بنتائج الشركة وتقاريرها المالية من قبل المديرين التنفيذيين تصعيدا خطيرا نادرا ما تكون عواقبه هينة على الشركة ومساهميها.
يتجاهل البعض أهمية الفرصة ويقفز مباشرة إلى الدافع، وهو ما يجعله يعتقد أن الشركات التي تمتلك هياكل حوافز ومكافآت كبيرة بعيدة عن خطر الاحتيال الذي يتم من قبل كبار التنفيذيين، لكن هذا غير صحيح، فالمكافآت والحوافز الضخمة لا تحول أبدا دون تورط البعض في الاحتيال المالي والذي يعتبر مشكلة أخلاقية في المقام الأول، وهي مشكلة ستظل قائمة ما لم يتم تطوير آليات حوكمة تهدف إلى منعها أو عدم إتاحة الفرصة من الأساس.
تشير الكثير من الدراسات إلى أن مكافآت وتعويضات الأسهم الكبيرة المرتبطة بنتائج وأداء الشركة عادة ما تحفز كبار التنفيذيين على التلاعب بنتائج الشركة لتبدو على نحو أفضل مما هي عليه في الواقع.
في دراسة نشراها عام 2007 تحت عنوان «حوافز للغش» أشار كل من «جاريد هاريس» و«فيليب بروميلي»، إلى أن احتمالية تورط المدراء التنفيذيين في سلوك مالي ضار ترتفع كلما زاد ما يحصلون عليه من مكافآت الأسهم، وبالتالي فإن المكافآت والتعويضات التي قد يقصد بها تشجيع المدراء التنفيذيين على عدم التعدي على أموال الشركة أو الامتناع عن تقديم مصلحتهم على مصالح المساهمين قد تكون هي ما يحفزهم ويشجعهم على التلاعب بالبيانات المالية للشركة لكي تبدو أفضل مما هي عليه حقيقة.
أغلق الباب
ما سبق يتضح أن المشكلة بالأساس تكمن في توافر الفرصة من الأصل، فحتى أفسد مدير تنفيذي على وجه الأرض لن يجرؤ على الاحتيال أو التلاعب إذا كانت هناك مراقبة صارمة للتقارير المالية للشركة من قبل كل من المساهمين والجهات التنظيمية وشركات المراجعة، لأن هذه المراقبة الصارمة تقلل من الفرص المتاحة أمامه وبالتالي تقلل من رغبته في الاحتيال لأنه حينها يدرك أن هناك عواقب لا مفر منها.
باختصار، المدير التنفيذي مثله مثل أي إنسان ليس شريرا بطبعه وليس محتالا يمشي على قدمين، الفكرة هي أن الجميع يولد باستعدادات فطرية تؤهله للتكيف والاكتساب، وإذا تورط المدير التنفيذي في أي نشاط احتيالي فإن السبب الأول الذي يجب أن يتبادر إلى الأذهان هو توافر الفرصة أمامه، بسبب ضعف الدور الرقابي الذي تمارسه عليه الحوكمة الداخلية والقوانين التنظيمية والمراجعة الخارجية وقبل كل ذلك حنكة وتركيز المستثمر. وكما قالوا قديما في الأمثال: «المال السائب يعلم السرقة»، فالغفلة والجهالة تعلمان الكذب أو تعلمان كتمان الحقيقة ولو إلى حين.