كثيرة هي الأمثلة التي تحاكي واقعنا ونستشهد بها، ومنها قولهم: «مالي أسمع جعجعة ولا أرى طحينا»، وهو مثل عربي أخذه الكاتب الإنجليزي المشهور وليام شكسبير وجعل منه عنوانا لمسرحية كتبها، ويضرب مثلا لكثرة الصخب بلا فائدة، ثرثرة لا تغني ولا تسمن من جوع، والواقع أن هذا ما نراه مع الأسف في وطننا هذه الأيام، نحن نحب الكويت ولا نزايد في ذلك، نعشق هذا التراب، ونؤثره على أنفسنا، يعجبنا قيظه وسمومه وغباره ورطوبته، وكيف لا نحب الكويت وقد أخذنا منه كل شيء، لقد كفلنا الوطن من المهد إلى اللحد، وهذا ما لا نجده في أي مكان آخر، لقد صانت الكويت كرامتنا ورعتنا صغارا وكبارا مثل الأم الحانية على أطفالها، ولم نر منها إلا الخير، بل إنها هي الخير كله، لنا أن نقول ما نشاء كيفما نشاء وفي أي مكان وأي وقت بلا خوف ولا وجل، نتحدث بكل شاردة وواردة ثم نعود إلى منازلنا آمنين مطمئنين، وننام ملء جفوننا.
لقد أعطانا الوطن بكل سخاء، فما الذي أعطيناه؟ هل أعطيناه بقدر ما أعطانا؟ لا والله ولا سدس السدس، لن نوفي هذا الوطن حقه ولو بذلنا أنفسنا ومهجنا دونه، سبحان من بيده كل شيء، لقد أصبح بعض الناس يحبون الوطن حسب أمزجتهم وتوجهاتهم وميولهم، والكويت لا تحب بالأمزجة بل بالأفئدة.
أيها السادة، إن الحديث عن الوطن وحبه حديث ذو شجون وشجن، فالوطن لا يعادله شيء في هذه الدنيا، ولا يقدر بثمن، وإن حب الوطن مكمنه القلب وليس اللسان، يسري في الدماء، وبين حب القلب واللسان بون كبير، وفرق شاسع، لأن هذا الحب بالذات لا يقبل القسمة، إنه حب فرضته الشريعة والمواطنة والإنسانية، وإن لم يكن هذا الحب يتوافق فيه القول مع الفعل فهو عاطفة كاذبة، ومن حقنا ألا نصدق من يقول إنه يحب الكويت إلا إذا أثبت لنا ذلك قولا وفعلا.
كثير من الذين يتباهون بحب الكويت ويظهرون للناس أن كل ما يفعلونه من أجل عيونها وتمسكا بترابها لا نصدقهم، كلام كثير بلا فعل، وعبارات رنانة لا تساوي شيئا، فما يفعلونه عكس ما يقولونه، نسمع جعجعة ولا نرى طحينا، يظنون كل الظن انهم يعمرون وهم يخربون، وهؤلاء الناس ينطبق عليهم المثل المصري الذي يقول: «أسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أتعجب»، لأنهم يقولون ما لا ما يفعلون، تراهم جميعا وقلوبهم شتى، (كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
والعجب كل العجب ممن يصدقهم ويسير وراءهم، ويهلل ويطبل لهم، فمتى كان حب الوطن بالخطب والشعارات الزائفة والهتافات، تبا لهذا الحب الماسخ، يجب ترجمة هذا الحب على أرض الواقع، كي نتلمسه ونقول: عافاك الله شكرا أنت محب لوطنك.
أيها السادة، من قدم مصلحته على مصلحة وطنه فبشره بالخسران والخيبة، كم شاهدنا تصرفات تتناقض والادعاء بحب الوطن، لقد صرنا نفقد الانتماء شيئا فشيئا، حتى الدستور أصبحنا نأخذ منه ما نريد ونترك ما لا نريد، لقد تناسينا بقصد وبغير قصد إن حب الوطن هو الحب الوحيد الخالي من الشوائب، زرع في قلوبنا ودمائنا، فلا وطن بعد الكويت، هذا الوطن الذي حفظنا، ووقف معنا في أحلك الظروف، وكل من عاش في الكويت من الإخوة العرب أحبها وذكرها بالخير وتمنى لو أنه ما زال يعيش فيها، لقد مللنا الجعجعة بلا طحين وسئمناها، فاللهم لا تكثر فينا المجعجعين الذين يرون السراب ماء، واحفظ الكويت وأهلها من كل سوء.