شهد التاريخ الإسلامي حوادث قتل مروعة لرجال ونساء لهم أمجادهم، أمثال حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي مُثّل بجسده الطاهر بصورة بشعة جدا.
وكذلك السيدة سمية أم عمار بن ياسر رضوان الله عليها، أول شهيدة في الإسلام إثر تعذيب شديد أعقبه طعنة بحربة، وكذلك آل البيت النبوي الشريف الذين أمر القرآن الكريم بمودتهم، وأوصى بهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خيرا، ومع ذلك لقوا من العنت والسجون والإزاحة عن مواقعهم المرسومة لهم، وهم ما بين قتيل ومسموم، حتى روي أن النار دنت من باب كريمته سيدتنا الزهراء عليها السلام! وحروب الفتة الكبرى وشهداؤها معلومة.
فلماذا لا يُهتم بذكراهم، ولا تقام الشعائر الدينية لتمجيدهم، كما هو الحال في الإمام الحسين عليه السلام؟!
طبعا من المفترض أن الأمة الإسلامية قاطبة معنية بتخليد رجال الله، وخاصة أهل البيت عليهم السلام من منطلق الحديث الشريف «يحزنون لحزنهم، ويفرحون لفرحهم»، وهذا موجه للمحبين لهم من كل المدارس الإسلامية، بما فيها الحسينيات التي بالفعل تخلد ذكراهم طوال العام.
لكن من الصحيح أن عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام أخذت زخما مميزا، وواسعا وعميقا، للأسباب التالية:
1 ـ حظي الحسين عليه السلام برثاء جده النبي صلى الله عليه وآله منذ ولادته فبكاه وأبكى من حوله وبحضور أمهات المؤمنين وأصحابه وأخبرهم بما أخبره جبريل بما سترتكبه أمته من بعده، بقتل ابنه الحسين عليه السلام.
وهي رسالة عامة موجهة لكل مسلم تفيد الحذر من التورط بهذه الجريمة الشنعاء، أو التعاطف مع مبادئ ومواقف قتلته وأمثالهم من الطغاة على مدى الأجيال اللاحقة.
2 ـ أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، منزلة عظيمة للإمام الحسين عندما جعله امتدادا لخطه النبوي لا فاصل بينهما، وبلا قيد ولا شرط: «حسين مني وأنا من حسين»، وجعل محبته من محبة الله عز وجل«أحب الله من أحب حسينا» وأنه «سيد الشهداء» وأنه وأخاه الإمام الحسن «سيدا شباب أهل الجنة»..الخ، مما أضفى العصمة والقداسة لخط الحسين، وفي أحقيته في مواجهة الفساد والباطل، وسلامة مواقفه. وهو حب أكبر وأسمى من مجرد الحب القلبي فحسب.
3 ـ كذلك انفرد الحسين عليه السلام بعمل غيبي خارق عندما ناول جبريل عليه السلام النبي عينة تربة من صعيد كربلاء محل قتل الحسين، وأخبره بأنها يومئذ ستتحول دما عبيطا، وهذا ما خبرت به أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمى.
مما يعني عناية إلهية متميزة، تؤله لدوره القيادي المهم في تكريس الرسالة الإسلامية والدفاع عنها، ومعيارا للحق ضد الباطل.
4 ـ اهتمام أئمة أهل البيت عليهم السلام بإحياء ذكرى عاشوراء الحسين وإظهار الحزن، وتشجيع الشعراء بنظم المراثي الحسينية، وحث المحبين والموالين بنصب مجالس العزاء والبكاء على مأساة كربلاء، والأحاديث الشريفة عنهم كثيرة جدا ومتواترة بأجزل الثواب والأجر من الله تعالى لهؤلاء المحبين.
وحديث الإمام المعصوم من أهل البيت لا ينفك عن انه عين حديث النبي صلى الله عليه وآله «إني تارك فيكم الثقلين، إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وعترة أهل بيتي».
5 ـ سيرة أعمال العلماء والمراجع الدينية والمؤمنين على مدى التاريخ، وتعاطفهم وأعمالهم بإقامة مجالس العزاء منذ السنة الأولى لعاشوراء، رغم منع الدولة الأموية والعباسية، وبسط العقوبات المتشددة ووضع العوائق أمام إقامة مجالس العزاء ومنع زيارة قبره الشريف، تصل إلى حد الإعدام، ووضع العوائق أمام الزوار، كما هي محاولة المتوكل العباسي لغرق القبر الشريف بالمياه.
مثلما منع المقبور صدام حسين المواكب الحسينية في العراق، وضرب قبة قبر الإمام الحسين بالصواريخ 1991.
وكذلك تجنيد الكتاب والخطباء لإثارة الشبهات وحملات التشكيك والتزييف لصرف اهتمام المؤمنين عن عاشوراء الحسين عليه السلام، والتقليل من أهميتها بصفتها واقعة تاريخية انتهت وأطرافها في ذمة الله تعالى، ولكن ذلك لم يزد الذكرى الحسينية إلا شوقا عامرا لدى الجماهير، وحرارة في القلوب لا تنطفئ مهما ازداد الخطب، واشتدت البلايا على محبيه.
وها هي مجالس الحسين عليه السلام وقد عمرت الدنيا وتوسعت في أنحاء العالم، وبلغاته المختلفة كلها تلهج «واحسيناه».
6 ـ أثبتت الوقائع القديمة والمعاصرة بأن شعيرة مآتم الحسين لها آثارها في الواقع المعيش، ودورا مهما في تمسك المسلمين بالخط الإسلامي المناهض للتيارات الإلحادية والزندقة ودعاة الميوعة والمجون، لتذكرهم بمسؤولياتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7 ـ في ظل التضييق الإعلامي عن مدرسة أهل البيت، وتغييبها عن المناهج الدراسية، والكليات الجامعية، تبرز البدائل في مؤسسة «الحسينية» وأهميتها في سد هذه الثغرات، وعملت على تربية الأجيال بتعليم الناس عقائديا وفقهيا، وتثقفهم في السيرة والأخلاق والتاريخ، على هدي القرآن الكريم وسنة النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
ولولا المنبر الحسيني لتلاشى كل ذلك عن عقول وقلوب المؤمنين، وانمحى عن وجدانهم.
وكان للسرد المأساوي لتضحية الحسين دور كبير في ربط عواطف الجماهير، يذكرونه حتى في أحزانهم، لتهون عليهم لوعة مصائبهم، وتسليهم عن فقدانهم لأحبتهم.
8 ـ كان لقلة الناصر والمعين للحسين، دور حتى الآن في شحذ همم المجاهدين المقاومين في مقابل الاستكبار العالمي، وكانت صرخة الإمام الحسين «هيهات منا الذلة» تمثل دعما للصامدين في وجه الظالمين، وهذا يذكرنا في أبطال الكويت في مقاومتهم للعدوان البعثي العراقي ومن ذلك معركة بيت القرين.
وكذلك في صمود المقاومة الإسلامية اليوم ضد إسرائيل، وضد التطبيع مع الصهاينة.
مما يتبين أن قضية الحسين ليست قصة تاريخية قتل فيها إنسان عظيم فحسب، وليست مشكلة طائفية كما يحاول أن يروج لها البعض، وليست قضية نزاع على سلطة وتنافس للتسلط على رقاب الناس.
ولكنها رسالة خطط لها أن تكون مصدر نور وبصيرة لكل الباحثين عن الحق، وإلهام للمجاهدين ضد الظالمين.
[email protected]