«إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني»، جملة صادمة أطلقها المفكر والفيلسوف ابن رشد منذ قرون ولا يزال صداها يتردد إلى يومنا هذا، ويقول أيضا «إن التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل».
لقد قفزت إلى ذهني هذه المقولات الخالدة وأنا أطالع بعض التعليقات العجيبة للمعترضين على اقتراح النائب صالح الملا بتنصيب تمثال المغفور له بإذن الله سمو الشيخ عبدالله السالم، طيب الله ثراه، أمام مجلس الأمة أو أمام مركزه، بحجة أن الشرع الشريف حرم النحت والتصوير، وتذكرت فتاوى تحريم التصوير لمشايخ الصحوة حتى وجدناهم نجوم التصوير والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي يتابعهم الملايين في حلقة من سلسلة تناقضاتهم الخالية من أي مبدأ إلا مبدأ المزايدة على الجميع، بالتلاعب بالنصوص الشرعية وتكييفها وفق التوجهات في تلون حربائي يتقنوه باحتراف استغلالا للجهل والنسيان، يفتون بحرمة الفنون بشتى صورها والمولى عز وجل يقول في كتابه الكريم في سورة سبأ (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) صدق الله العظيم.
هذا التنطع يأتي متزامناً مع عودة حركة طالبان للسيطرة على أفغانستان وجميعا شاهدنا الكثير من بسطاء الشعب الأفغاني وهو يتشبث بالطائرات في مطار كابول في مشهد يندى له جبين الإنسانية هربا من طيور الظلام الذين عادوا لينقضوا على ما تبقى من مظاهر الإنسانية في هذا البلد الموبوء بالظلاميين!
هؤلاء الوحوش وأمثالهم أعداء الحضارة والإنسانية الذين دمروا الكثير من التراث الحضاري والإنساني لشعوب الشرق، ولولا الجهل والباطل المغلف بفهمهم السقيم للدين لما وجدوا موضع قدم لهم في الشرق الأقصى والأوسط بأكمله.
من هنا نجد أن اهتمام الشعوب بالفنون والآداب كالموسيقى والشعر والمسرح والتصوير والنحت والقصص الروائية و.. و.. و..الخ، هي الحصن الحصين لأي مجتمع من الأفكار الظلامية وسيطرة أصحابها على ثروات الشعوب وموروثهم الحضاري الإنساني، هذه العلوم الإنسانية لا تقل أهمية عن نظيرتها التجريبية والتطبيقية في تطور وتقدم الشعوب، بل يمكن اعتبارها حجر الأساس لدورها في رقي وسمو الأفكار والوعي المجتمعي لما تحمله من تراكم معرفي منذ فجر التاريخ، والدليل على ذلك ما تركته لنا حضارات العصور القديمة والوسطى من شواهد تحكي قصص شعوب وكفاحهم المنحوت على جدران المعابد وحتى مناظر حياتهم اليومية ووقوف التماثيل والمسلات شامخة في عديد الميادين لعواصم الكثير من الدول المتقدمة شرقا وغربا، ولذلك أقولها وبوضوح لن تتقدم الشعوب العربية والإسلامية إلا بالتسامح وتقبل الآخر وبالقراءة والمعرفة، وأن تتصدر العلوم الإنسانية قائمة الاهتمامات والأولويات لدى الحكومات والشعوب لأنها السبيل الوحيد لتحصين المجتمع من الأفكار الظلامية الرجعية والعنصرية والطائفية والانحراف الأخلاقي.
تمكين الشباب من تفريغ طاقاتهم البدنية والذهنية في الرياضة والمعرفة لن تجعلهم يقعون في أفخاخ الظلاميين صناع الوهم من تجار الأديان ومدعي الإصلاح، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حينما قال:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشرف