السياسة بحر غزير متلاطم الأمواج، لا يصل قراره إلا أناس متخصصون فيها مدركون لخوافيها، عارفون ما وراء الأكمة، ولأهميتها القصوى فهي تدرس بالجامعات، وقد عرف ابن الأثير السياسة بأنها القيام على الشيء بما يصلحه، ولابد أن نضع باعتبارنا هنا أنه ليس كل من تحدث بالسياسة يفهم فيها، لأن هذا الأمر ليس بالسهل كما يتصور البعض، وفي هذا الوقت بالذات أصبحنا نرى كثيرا من الناس يتحدثون فيها حتى اختلط حابلها بنابلها، مما جعلنا لم نعد نميز الغث من السمين، ولا نعرف السياسي ممن يدعي ذلك، فكل يدعي الخبرة بالسياسة، وكل يتحدث فيها وكأنه عارفة زمانه، فضاعت الطاسة، والتبست علينا الأمور.
ومن هنا ولزيادة المعرفة ذهبت إلى صديق قديم لي كنت ومازلت أسميه جهبذ السياسة لحنكته وطول تجربته، والجهبذ في اللغة لمن لا يعرف المعنى هو الخبير بغوامض الأمور، الذي لا تخفاه خافية، الذكي الألمعي الناقد المتضلع، وصاحبي هذا بلسم سياسة، وشفاء لصدر السائل، وقد ذهبت إليه لأفهم واستفسر خاصة أن جهابذة السياسة أصبحوا عندنا أكثر ممن يستمع اليهم، وكثير منهم يدعي أنه جهبذ في السياسة وجهبذة السياسة منه براء، كقول الشاعر:
وكل يدعي وصلا بليلى
وليلى لا تقر له بذاكا
فتجد هؤلاء الناس يدورون في حلقة مفرغة، لا نفهم مما يقولون شيئا، كلامهم أشبه ما يكون بالتمثيل، جل همهم الظهور وان يتحدث عنهم الناس، ولكن صاحبي هذا جهبذ السياسة ليس كهؤلاء، مرعى ولا كالسعدان، أين الثرى من الثريا؟ جربته فعرفت صدق حدسه حتى أسميته باقعة السياسة، فهو ملم بخوافي الأمور، صريح وصادق، إلا أنه لا يحب الظهور، وكثيرا ما أجالسه وأتحدث معه وأسأله وأحاوره، أما سبب ذهابي له فلأنني لا أفك الخط في السياسة، ولا أعرف ألفها من بائها، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، فأستفيد من خبرته وتجربته في الحياة، فزرته ليلة البارحة وسألته: ما بال الهرج والمرج واللغط كثر عندنا يا سيدي، وما بال الناس أصبحوا يتدخلون فيما لا يعنيهم؟
وما بال من يتحدثون بالسياسة أصبحوا أكثر ممن يستمع لهم؟ فابتسم كعادته وقال بكل ثقة: نعم هذا صحيح، كثر الهرج والمرج في بلادنا، لأن مساحة الحرية عندنا كبيرة جدا، مما جعل بعض الناس يتدخلون فيما لا يعنيهم وكأنه شأنهم الخاص، وربما يكون الآتي أشد وأنكى، وهؤلاء الذين أشرت اليهم ينطبق عليهم قول القائل: من أمرك؟ قال: ومن نهاني، وإذا أمنت العقوبة أسأت الأدب، هكذا طبيعة بعض الناس، إذا لم تستح فافعل ما تشاء، لم يعد التحاور والنقاش مجديا مع هذه الفئة ولا نافعا، والمشكلة أن الأمر ليس مقصورا على السياسة وإنما ظهر عندنا جهابذة علم وتاريخ وأدب ومنطق وعلم نفس وفلسفة وشعر، وكل لا علاقة له بما يدعي، لم يعد أحد منهم يحسن أن يقول لا أعرف! فالكل يعرف.
إن السياسيين اليوم قلة قليلة مقارنة بمدعي السياسة، وكثير منهم لا يطالعون أبحاثا ودراسات تتحدث عن هذا الجانب المهم، حتى إنهم دخلوا عبر بوابات غير سياسية إلى عالم السياسة، علما بأن السياسي يتصرف دائما بهدف ويتكلم وفقا لغرض، ويسعى دائما لغاية ويرسل رسائله بحذق ويكون واثقا مما يقوله ويطرحه، كما أنه قارئ جيد للعلوم والفلسفة السياسية ويضع مصلحة الوطن في اعتباره.
والسياسة اليوم أصبحت تعجب الجميع، وعلى السياسي ألا يلتفت لصغار الأمور وتوافهها، ويتحدث عن جوهر ما يريده، وعلى العموم ما بني على باطل فهو باطل، ولابد أن تنكشف حقيقة هؤلاء، وحبل الكذب قصير، ولابد من تعرية من يدعي السياسة، ومن يستخدم السياسة ذريعة لحاجة نفسه، وما أجمل قول أجدادنا (الثوب اللي أطول منك يعتك) وكل من يدعي ما ليس فيه سيفشل ويغيب عن الأنظار، فلا يصح إلا الصحيح.. ودمتم سالمين.