على هامش الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، تسجل حركة استنفار في مكان آخر.
وفي موازاة التحضير لمفاوضات صارت وشيكة مع صندوق النقد الدولي، يجري التحضير لمفاوضات بات استئنافها محتملا مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية.
وما كادت الحكومة تبصر النور حتى داهمها هذا الملف واضطرها إلى استنفار سياسي وديبلوماسي، فعقدت اجتماعات متلاحقة في قصر بعبدا مع الوفد المفاوض وأيضا في وزارة الخارجية، وحصل دخول أميركي على الخط عبر السفيرة دوروثي شيّا، ورفعت شكوى لبنانية إلى الأمم المتحدة من جراء تحرش واستفزاز إسرائيل في منطقة متنازع عليها.
ولفهم ما يجري يجب قراءة هذا الملف بمفعول رجعي وعبر التسلسل الزمني لتطوراته:
1 ـ بدأت مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل في الناقورة وبرعاية الأمم المتحدة (اليونيفيل) منتصف أكتوبر الماضي، وعلى أساس «اتفاق الإطار» الذي توصل إليه الرئيس نبيه بري بعد مفاوضات شاقة مع الأميركيين استمرت سنوات.. هذه المفاوضات ما لبثت أن توقفت بسبب أكثر من تغيير: التغيير في الرئاسة الأميركية وفي الحكومة الإسرائيلية، وفي الموقف اللبناني.
2 ـ التغيير في الموقف اللبناني التفاوضي الذي يثيره الأميركيون والإسرائيليون واتخذوه ذريعة لوقف المفاوضات، يتعلق بتحديد لجنة فنية من الجيش اللبناني ما تعتبره حدود لبنان البحرية وعلى نحو يفوق بأضعاف ما حددته إسرائيل.
فالوفد اللبناني كان قد تفاوض على أن المنطقة البحرية التابعة للبنان تنتهي عند الخط 29 في الوقت الذي ينص المرسوم 6433 (الذي وضع في العام 2011) على أنها تنتهي عند الخط 23.
وبالتالي، صار المطلوب تعديل هذا المرسوم وفق الإحداثيات التي وضعتها قيادة الجيش وإيداعه لدى الأمم المتحدة لقطع الطريق على إسرائيل من القيام بعمليات تنقيب عن النفط والغاز في المنطقة المتنازع عليها، ولضمان حقوق لبنان كاملة.
ولكن هذه الخطوة تأخرت، إذ كان يجب أن تتم في يونيو الماضي، وعزي التأخير (مع توقف المرسوم في قصر بعبدا) إلى سببين: داخلي يتعلق بعدم وجود حكومة لاتخاذ قرار بالتعديل، وحيث ان توقيع رئيس الجمهورية ليس كافيا.
وخارجي يتعلق بضغوط أميركية مورست على لبنان، وجاءت على شكل نصائح بأن يتعامل لبنان بهدوء مع ملف ترسيم الحدود، وأن يتحلى بالواقعية لأن مصلحته في العودة إلى طاولة المفاوضات بطروحات معقولة، ومن دون مبالغة في رفع سقف التفاوض، وإلا فإنه يخسر الوساطة الأميركية وفرصة الحصول على ثروته البحرية التي هو في أمسّ الحاجة إليها.
3 ـ في ظل توقف المفاوضات بسبب الخلاف على الخرائط، أعلنت شركة «هاليبرتون» الأميركية منتصف هذا الشهر فوزها بعقد خدمات متكاملة لتنفيذ حملة حفر من ثلاث إلى خمس آبار ضمن المنطقة البحرية المتنازع عليها لمصلحة شركة «إنيرجان» اليونانية التي تعمل في الاستكشاف والإنتاج وتركز على تطوير الموارد في البحر المتوسط، وهو ما استدعى ردة فعل لبنانية سريعة ترجمت في شكوى إلى مجلس الأمن والطلب منه التأكد من أن أعمال التنقيب لا تقع في منطقة متنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، وبمنع أي أعمال تنقيب مستقبلية.
4 ـ الشكوى إلى مجلس الأمن اعتبرت خطوة غير كافية و«دعسة ناقصة»، لأن الوثيقة اللبنانية الموجودة في الأمم المتحدة تعتبر الخط 23 حدودا بحرية لبنانية وليس الـ 29، وبالتالي يمكن أن تنال إسرائيل صك براءة في عمليات التنقيب كونها تجري خارج المنطقة المتنازع عليها، وطالما أن لبنان لم يبادر إلى سحب المرسوم 6433 من الأمم المتحدة وتعديله في جلسة لمجلس الوزراء وفق الإحداثيات الجديدة التي يفاوض عليها الوفد العسكري التقني، أي اعتماد الخط 29 الذي أوصى به التقرير البريطاني وتعتمده قيادة الجيش.
5 ـ قيادة الجيش تعتبر أن عمليات الحفر والتنقيب التي تجري جنوب البلوك رقم 9 تهدد حصة لبنان، خصوصا إذا لم يتم التوقيع على تعديل المرسوم، ولذلك ينصح، ومع تشكيل حكومة جديدة، بتعديل المرسوم لأنه ملف استراتيجي واقتصادي، والأمر يتعلق بالمحافظة على حقوق لبنان في ثروته في المنطقة الاقتصادية الخالصة، ويفرض عدم الالتفات إلى محاذير وهواجس مثل إمكانية أن يؤدي التعديل إلى حرب أو إلى مقاضاة لبنان من الشركات العاملة في البلوكات الإسرائيلية، أو إقدام إسرائيل على طرح خطوط جديدة كالخط 310.
الخلاصة، أن إسرائيل والولايات المتحدة تعتبران منطقة النزاع هي المثلث البحري الذي تبلغ مساحته 860 كلم2، والتفاوض يجري على تقاسمه وفق خط هوف الذي أعطى 55% منه إلى لبنان ونحو 45% إلى إسرائيل.
أما لبنان، فإنه يطالب بمنطقة متنازع عليها تصل مساحتها إلى 2290 كلم2، وبما يعني أن «حقل كاريش» يقع في جزء منها، ولكن على لبنان، الباحث عن «استراتيجية تفاوض» والساعي إلى ترتيب أوراقه، أن يقرر إتباع الطرق القانونية لاستعادة حقوقه بدءا من تعديل المرسوم.. أو سلوك الطرق التفاوضية والديبلوماسية بدءا من أخذ النصائح الأميركية بالاعتبار.. الكرة الآن في الملعب اللبناني.