منذ أن بدأت أزمة جائحة كورونا والجدل يدور حول المدى الذي تمتد إليه الإجراءات الحكومية على الإنسان ضغطا وقيودا في العمل والتنقل بهدف الحد من انتشار الجائحة، وحول الموازنة بين احترام الحرية الفردية والحفاظ على الصحة العامة، ومدى القبول بالمساس بالحرية الفردية، بهدف الحفاظ على حياة الجماعة! وهو ما أطلق عليه المعارضون لهذه القيود عبارة الديكتاتورية الصحية Health dictatorship، والتي اخترتها عنوانا للمقال، قبل أن أعرف أن هذه المصطلح بدأ ينتشر مؤخرا، وحتى أن ثمة بعض الأدبيات عنه، إضافة لموقع تحالف الليبراليين والديموقراطيين من أجل أوروبا، والذي استحدث زاوية الكلب الحارس لمواجهة ديكتاتورية كورونا Corona Dictatorship Watchdog والمختص بتقديم لمحة عامة عن الدول التي تستخدم هذه الأزمة لتأسيس أو تعزيز السلطات الاستبدادية، وتقويض الديموقراطية، وتعليق المبادئ البرلمانية، وإلغاء توزيع السلطة وسيادة القانون، وكيف تستخدم الدول الاستبدادية الأزمة الصحية لـ «كوفيد-19» لتقييد حرية التعبير وحرية الإعلام، مما يؤدي إلى نشر معلومات مضللة بين مواطنيها.
وقد ازداد الجدل شيئا فشيئا حول حزمة الإجراءات الاحترازية، مثل فرض التباعد الاجتماعي والحظر الشامل والجزئي وإغلاق دور العبادة، وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي مثل استطلاع «توجهات الكويتيين في أزمة كورونا» في مارس 2020، والذي أظهر أن 87.5% على استعداد للتنازل عن بعض حقوقهم إذا كان ذلك سيحد من انتشار الفيروس، وأيد 83.4% من المستجيبين أن تفرض الحكومة حظر التجول كإجراء وقائي لمنع تفشي وباء كورونا، ومثله نتائج في الأردن وغيرها من الدول العربية، التي بالطبع وان قلت نسبة تأييد هذه الإجراءات فيها لاحقا، إلا أنها تبقى أكثر من البلدان الأوربية كما أظهرته استطلاعات غالوب العالمية.
وامتد الجدل لاحقا إلى موضوع التطعيم وما يفرضه من قيود على السفر، وقد يكون هذا الموضوع هو الأبرز في الإعلام الأميركي هذه الأيام، وعالميا، أظهر استطلاع منظمة غالوب عن كورونا 2020، والذي أجري في 116 دولة، أن 68% من البالغين حول العالم ينوون تلقي المطعوم، على حين ذكر 32%، أي ما يقارب 1.3 مليار شخص، أنهم لن يأخذوا المطعوم!
مازالت هناك نسبة كبيرة في أوروبا ترفض التطعيم بحجة الحرية الفردية او انكار الوباء، وفي الولايات المتحدة، بات أمرا بديهيا أن ينتشر الوباء وتكون معدلات الإصابة في ذروتها في الولايات غير المطعمة مثل فلوريدا وتكساس وغيرهما، ورغم ذلك مازال كثيرون يحتجون بشعار الحرية الفردية ويبدون اعتزازا كبيرا به متجاهلين العلم والإحصاءات التي تدعم اللقاحات.
وفي المقابل، شاهدت فيديو للحاكم السابق لولاية كاليفورنيا الممثل آرنولد شوارزنيغر، وهو ينتقد تراخي الكثيرين في اتخاذ الإجراءات الوقائية مثل التطعيم، ورد على من يحتجون بالحرية الفردية بقوله «تبا لحريتكم»، مضيفا أن للحرية مسؤوليات تصاحبها، ومن قبل دافع الرئيس الفرنسي ماكرون عن الإجراءات الصحية بأنه لا حرية مطلقة.
وكما احتج البعض بالحرية كحق منصوص عليه في الدستور الأميركي، وفرق بين ما يراه تعليمات Mandate صادرة من الحكومة يمكن مناقشتها والاعتراض عليها، وما يعتبره قانونا Law صادرا عن الهيئة التشريعية يجرم مخالفه ويرى أنهما ليسا سواء!
يظهر هذا الجدال أن مفهوم الحرية قد لا يكون قابلا للضبط، وأنها تحتاج لما يسند تقييدها بأدوات أخرى استخدمتها جهات عديدة لتحديد وترشيد قرارتها خلال الجائحة، مثل استطلاعات الرأي وتلبية رغبة الأغلبية وانصياع الأقلية، كالنموذج الذي ذكرته سابقا في مقال «يعودون للمدرسة أم يدرسون في البيت؟»، وكيف حاولت بعض الجهات التعليمية أن توازن بين آراء أولياء الأمور والتعليمات الصحية في اتخاذ قرار العودة للدراسة الوجاهية.
والآن، وقد بات كثيرون يبررون الديكتاتورية الصحية بالمفهوم الإيجابي، وحق السلطات في فرض ما تراه مناسبا من إجراءات للحفاظ على الصحة العامة، يبدو تناقض بعض هؤلاء واضحا، حين يرفضون أن تلزمهم السلطات بأحكام معينة لأنها واجبة دينيا بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، ويرفعون عقيرتهم بمعارضة ذلك بحجة قدسية الحرية الفردية!
[email protected]