التتبع التاريخي لآلية تطور المجتمعات الحالية والسابقة، كلها تتفق على أن المجتمعات التي اختارت التطور كطريقة حياة قدمت الكثير من التضحيات في سبيل هذا التطور، لا شك في أن عادة التاريخ التركيز على الشخصيات القائدة للمجتمعات، دون الدخول في التفاصيل، ولكن التجربة تؤكد أن هذه التفاصيل والتفاعلات والتضحيات التي تحدث داخل المجتمعات هي المحرك الرئيسي لقادته، لذا من المهم جدا الإطلاع على التاريخ من خلال نظرية (تأثير الفراشة) وكيف أن فراشة صغيرة رفرفت بأجنحتها في مكان تسبب بعاصفة كارثية في مكان آخر، كما تقول النظرية.
عند الحديث عن التطور، دائما ما أتذكر كلام صديقي الكوري الجنوبي، حين شرح لي معاناة مجتمعه قبل التطور الحاصل حاليا قائلاً: «كان كل جيلي يذهب للمدرسة من التاسعة إلى التاسعة، لم تكن المدارس كما هي عليه الآن، كنا ندرس في المعابد والتي لم تكن متوافرة في كل مكان، فوجب علي أن أمشي فترة طويلة وأنا طفل حتى أصل إلى مدرستي (المعبد)، وكان على الموظفين العمل بنظام أشبه بالسُخرة، عمل عمل دون انقطاع أو كلل، مقابل أجر زهيد لا يكفي قوت الشهر»، كذلك اليابان بعد الحرب العالمية الثانية كان أطول وقت عمل للموظفين، وأطول عام دراسي في العالم موجودان لديها، بل وحتى المجتمعات المتطورة حاليا، ما زال مواطنوها يعملون ويدرسون لفترات طويلة.
داخل مجتمعنا الصغير وحتى العربي الكبير، ترتفع أصوات المطالبة بالتقدم والتطور، وتغير الوضع الحالي، وهذا شيء محمود، لكن الغريب أن هناك نسبة كبيرة يتضح من تصرفاتها أنها غير واعية بالتطور والتضحيات التي يجب أن يقوم فيها الأفراد في سبيله، فالشخص الذي يطالب بالتطور على وسائل التواصل، هو نفسه ينتهز أي فرصة للمطالبة بإجازة للمدارس، وهو نفسه لا يكترث بعمله، وينتهز أي فرصة للتهرب منه، والذي يطالب بتطبيق القانون على سراق المال العام، يضرب قانون المرور عرض الحائط، قد يراها البعض تفاصيل صغيرة، لكن المبادئ لا تتجزأ، فاحترام القانون الصغير يؤدي بالتأكيد إلى تطبيق القانون الكبير.
الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا المجال كثيرة، هل نحن مستعدون للدراسة لفترات طويلة، والعمل لفترات أطول؟ وبطريقة أخرى، هل نحن مستعدون للتضحية في سبيل التطور؟، وهل نحن مستعدون كمجتمع للتضحية بالمصالح الشخصية من أجل مصلحة المجتمع؟، رفع الشعارات والمطالبات سهل، لكن القيام بتطبيقها على أرض الواقع يحتاج إلى جهد وعمل واجتهاد لفترات طويلة، ولسان حال الواقع لا يتفق أبدا مع هذه المطالبات.