هذا شطر من بيت شعر فيه حكمة وعظة يقوله الفرزدق همام بن غالب وهو:
يفر من المنية كل حي
ولا ينجي من الموت الحذار
نعم، فليس من الموت فوت ولو ولج الجمل سم الخياط، فهو حق لا شك فيه، وهو الحقيقة المتجردة من كل زخرف، والأمر الذي لابد منه، شئنا ذلك أم أبينا (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون -الجمعة 8)، فلا فرار من الموت، أين المفر والإله الطالب، سنة من قبلنا وبعدنا، نكره الموت ونتشبث بالحياة ونود لو أننا لا نموت ولكن لولا الموت ما كانت الحياة، ولله در عدي بن زيد حيث يقول:
فهل من خالد أما هلكنا
وهل في الموت يا للناس عار
والحقيقة أن للموت حكمة ربانية، فبه تصل النفس إلى اليقين، وتعلم تمام العلم أن وراءها ثواب وعقاب، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (الزلزلة 7،8) وما الروح إلا عارية لابد من استردادها، ولولا الموت لضاقت الأرض بمن عليها، ولم تسع البشر أرزاقهم، وبالموت ينتقل المؤمن من حياة فانية إلى نعيم دائم، ومع ذلك فالموت زائر مكروه نبغضه أشد البغض منذ خلق الله الأرض ومن عليها، وقد وصف لنا القائد عمرو بن العاص الموت وصفا دقيقا لم يسبق إليه فقال وهو في السياق لابنه عبدالله: «يا بني والله كأن جنبي في تخت، وكأن جبال رضوى على صدري، وكأني أتنفس من خرم إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي حتى هامتي» أما مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح فلم يجزع من الموت وقال وهو يعاني سكرات الموت: «وافرحاه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه»، وذكر ابن أبي الدنيا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها دخلت على أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض موته فلما ثقل تمثلت بقول حاتم الطائي:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدرفكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد). وفي الموت عبر لمن اعتبر، فهذا عبدالملك بن مروان ملك الدنيا ووصلت جيوشه الصين ودانت له الأندلس لما حضرته الوفاة نظر الى غسال يلوي ثوبا ثم يضرب به المغسلة، فقال: ليتني كنت غسالا آكل كسب يدي يوما بيوم وأني لم أل من أمر الناس شيئا، فاللهم أحسن خاتمتنا.