دائماً ما تكون للإنسان الناضج فكريا رؤية فاحصة ودقيقة تنبع من الداخل، والتي تتجاوز الانتصار للذات إلى توجيه النقد البناء لها، وما إلى ذلك من انعكاس لما في ذهنه ونتاج لكل ما مر به من تجارب، مواقف، مشاكل أو صدمات، ويرى ذاته دائما من خلال تمظهرات سلوكه وانطباعاته وتصرفاته، والتي من خلالها يتصور نفسه ويقيمها في ضوء كل ما هو صائب، كما يخضعها أيضا لتقييم موضوعي يهدف إلى تصويب الرؤية وإصلاح الأمور السلبية فيها، لا ان يستسلم لها، ويسعى إلى تحسينها لكي يرقى بها إلى الأفضل.
وعادة ما يعرف هذا الشخص الناضج الفاهم بنظرته لذاته وكل ما تحويه الكلمة من معنى، لهذا تجده يعتقد يقينا أن الآراء والأفكار وبعضا من المعتقدات التي كان يؤمن بها قابلة للتغيير، لتكون اكثر سلاسة، فهو ذو تفكير ذكي ومنفتح، يرفض ربط نفسه بفكرة معينة أو اعتقاد أو رأي معين يقيد به نفسه وعقله، ولأنه يتمتع بنضوج فكري متزن فدائما ما تجده يرى نفسه على حقيقتها بما فيها من نقائص وعيوب، لا يتصنع، لا يناقض، لا يغتر ولا يكابر، بل يحملها المسؤولية التامة عن كل ما يصدر منها، لذلك يجد من الصعوبة جدا أن يحيا عقله وسط أفكاره وتصوراته التي تعتبر كلها حقائق ثابتة لا نقاش فيها.
فهو بعيد جدا عن أي محاولة لتجميل الذات خارجيا، لكي يبدو شخصا في صورة مثالية أمام الآخرين ولا يحتاج للتكلف والتصنع مادام أن ذاته في الأصل لا تنجذب لما يمكنه أن يكون زائفا وغير حقيقي.
فكثيرون هم الذين يلجأون إلى التصنع وارتداء الأقنعة المزيفة هربا من حقيقتهم التي غالبا ما تحـــرجهم، ويعيشون باستمرار دائـــم في اختلاق الأكاذيب والنفاق واعتبارها وسيلة ناجحة تعينهم على تحقيق غاياتهم التي يضمرونها عن الآخرين.
علّ وعسى أن تفتح لهم المجال لإبراز قدراتهم التي تزيد من احتمالية تجسيد أحلامهم على أرض الواقع، مبتعدين عن قول الحقيقة كونها ستضيع الكثير من الفرص التي ستصنع منهم أشخاصا منفردين، رائعين يحلمون في تحقيق أمنيات بعيدة جدا عنهم مكبوتة، وكانت بالنسبة لهم شبه مستحيلة.
أما الأشخاص الواثقون من انفسهم الناضجون فيرفضون الاعتراف بتلك الأمور ويرفضون تطبيقها في واقع حياتهم، ربما لأنهم في قرارة أنفسهم ينبذون هذا السلوك وتلك التصرفات الشاذة المناهضة لفطرتهم السليمة والتي دائما ما تفضل الوضوح والصدق، والبعيدة كل البعد عن اللف والدوران.
نظـــرتهم شاملة ذات قــراءة واعيـــة ومستبصرة لحقيقـــة الواقع الــذي يعيشونه، ويحاولون الانـــخراط الحيوي في الحياة بفـــكرهم العقلاني ولو على مضض، وإن كانت هذه الحياة غـــير عادلة في بعض الأحيان ومنصفة بالنسبة لهم، إلا انهم يسعون بالتفاعل بشكل إيجابي معها ومع خـــارج محيطها.
تأكد أن هناك مؤشرات ومقاييس معيارية تتبين بالملموس على أنك إنسان ذو تفكير صحيح وناضج بصورة كبيرة، كما تيقن أيضا أن الأمر ليس صعبا أو شاقا، لكنه يتطلب فقط التوافر على رغبة داخلية جادة وحقيقية نحو امتلاك رصيد كاف من تلك المؤشرات، ليمكن القول لك بأنك شخص حقيقي غير متصنع ذو تفكير ناضج.