الزمان هو الوقت كثيره وقليله، وتحمل سنواته وشهوره وأيامه الكثير من العبر، وكأن الزمان شاعر مفلق وأديب مصقع، يطوي صفحة تلو صفحة أمام أعيننا، ففينا من يعتبر وفينا من لا يرعوي، والزمان لا يتغير ليله ليله ونهاره نهاره، ولكن نحن من نتغير، ولو كلف المرء نفسه وتدبر ما حوله لعلم تمام العلم أن الزمان خير مؤدب له، ولله در الشاعر أبو العتاهية فقد وصف لنا الزمان فقال:
صفة الزمان حكيمة وبليغة
إن الزمان لشاعر وخطيب
إن الزمان لأهله لمؤدب
لو كان ينجع فيهم التأديب
ولقد يكلمك الزمان بألسن
عربية وأراك لست تجيب
لقد صحب الناس قبلنا الزمان وأهمهم من أمره ما أهمنا وخبروه مثلما خبرناه، فكلهم عناه الزمان ونالوا منه ونال منهم، فهل دامت الدنيا لأحد؟ وهل خلد الزمان أحدا، كل من مضى قبلنا مضى وفي قلبه غصة وله حاجة لم يقضها، لأنه يعطي ثم يأخذ ويضحك ثم يبكي، فلم التباغض والتحاسد والمعاداة وكل إلى زوال؟ ولا أخال إلا أننا في زمان يزداد الخير فيه إدبار ويزداد الشر فيه إقبالا، روي أن مسلمة بن زيد بن وهب دخل على معاوية بن أبي سفيان يتهادى كبرا وقد عاش دهرا، فقال له: أي الزمان أدركته أفضل؟ وأي الملوك أكمل؟ فقال: أما الملوك فلم أر إلا حامدا وذاما، وأما الزمان فيرفع ويضع آخرين، وكلهم يذكر أنه يبلى جديدهم ويفرق عديدهم ويهرم صغيرهم ويهلك كبيرهم، ودخل المعمر عبيد بن شرية على معاوية أيضا فسأله عن الزمان فقال: رأيت يوما يتبع يوم وأقواما يمضون ولا يرجعون، ولولا أن الحي يموت لضاقت الأرض بمن عليها، فقال له: فما أعجب مارأيت؟ قال: كنت في قوم فمات منهم رجل يدعى جبلة بن الحويرث فمشيت معهم في جنازته وبكت النساء وعندما دلي في حفرته خنقتني العبرة وتمثلت بشعر فقلت:
وبينما المرء في الأحياء مغتبط
إذ صار في الرمس تغفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
وذو قرابته في الحي مسرور
فقال لي رجل يقف إلى جانبي: أتعرف من قال هذه الأبيات؟ قلت لا، قال: هو الرجل الذي دلي في قبره الساعة، وأنت الغريب تبكيه ولست تعرفه، وذاك الرجل الذي نزل في قبره أقرب الناس إليه وأشدهم سرورا في مماته، (انتهى) وهكذا الدنيا تأخذ فوق ما تعطي والمنة على من هداه الله.