- العلماء اختلفوا في حكم مشاركة النساء في الغزو للقتال أو الأعمال المساندة كمداواة الجرحى وسقي الماء على عدة أقوال
- تقدير المصلحة من ولي أمر المسلمين بحسب اختلاف الأحوال يرجح حكم مشاركة المرأة في القتال بما يحقق المصلحة للمسلمين
- كتب السنة والسير أوردت أخباراً عدة عن الصحابيات الجليلات المشاركات في الغزوات وحالهن مع القتال
إعداد - ليلى الشافعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد وردت أحاديث عدة في الصحيحين تناولت الدور البارز للمرأة المسلمة في القتال في العهد النبوي المبارك، وذلك من خلال مشاركتها في غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصا في الأعمال المساندة، والخدمة للمقاتلين، من خلال السقي لعطشاهم، ومداواة الجرحى، وجمع السهام.
ولما سبق لي أن كتبت في أحكام القتال في الإسلام، وهو المنهج الذي يدرس لعديد من القطاعات، ففي هذا البحث أتناول مسألة من مسائل القتال في الفقه الإسلامي تتعلق بمشاركة المرأة المسلمة في القتال والغزوات، من خلال السيرة النبوية المطهرة، مع بيان أقوال العلماء في هذه المسألة، وضوابط مشاركتهن في القتال، وذلك في أربعة مطالب: المطلب الأول: الأحاديث الواردة في مشاركة المرأة في القتال، المطلب الثاني: أقوال العلماء في مشاركة المرأة في القتال، المطلب الثالث: مهام المرأة في الغزو وسهمها، المطلب الرابع: أعلام الصحابيات المشاركات في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى الموفق لكل خير، والحمد لله رب العالمين.
المطلب الأول: الأحاديث الواردة في مشاركة المرأة في القتال
لقد بوّب البخاري في كتاب المغازي عدة أبواب عن قتال النساء:
باب: غزو المرأة في البحر(1).
وباب: حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه(2).
وباب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال(3).
وباب: حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو(4).
وباب: مداواة النساء الجرحى في الغزو(5).
وباب: رد النساء الجرحى والقتلى(6).
وبوب مسلم في صحيحه:
باب غزو النساء مع الرجال(7).
باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم(8).
ومن هذه الأحاديث والآثار ما يلي:
عن عبدالله بن عبدالرحمن الأنصاري قال سمعت أنسا رضي الله عنه يقول دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنة ملحان فاتكأ عندها ثم ضحك فقالت لم تضحك يا رسول الله فقال ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله مثلهم مثل الملوك على الأسرّة فقالت يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم قال اللهم اجعلها منهم ثم عاد فضحك فقالت له مثل - أو مم - ذلك فقال لها مثل ذلك فقالت ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين ولست من الآخرين، قال: قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحر مع بنت قرظه فلما قفلت ركبت دابتها فوقصت بها فسقطت عنها فماتت(9).
عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرعَ بين نسائه فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب(10).
عن أنس رضي الله عنه قال لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم(11).
عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة(12).
عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة(13). عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى(14).
عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه، كتب إليه نجدة أما بعد فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن بسهم وهل كان يقتل الصبيان ومتى ينقضي يتم اليتيم وعن الخُمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان، وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم، وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو وإنا كنا نقول هو لنا فأبى علينا قومنا ذاك(15).
روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا منه الغضب فقال: مع من خرجتن؟ فقلنا: يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال: قمن حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، فقلت لها: يا جدة ما كان ذلك قالت تمرا(16).
وفي رواية: فقال لنا: أقمن، قالت: فكنا نداوي الجرحى، ونصلح لهم الطعام، ونرد لهم السهام، ونصلح لهم الدواء، ونصيب منهم، فلما فتح الله تعالى عليه خيبر، قسم لنا كما قسم للرجال، قلت: يا جدة، وما كان ذلك؟ قالت تمرا(17).
عن ابن اسحاق في قصة سعد بن معاذ لما أصيب يوم الخندق فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اجعلوه في خيمة رفيدة التي عند مسجده، حتى أعوده من قريب وكانت امرأة تداوي الجرحى وتحبس نفسها على خدمة من كان ضيعة من المسلمين(18)، وكان سعد بن معاذ حين رمي يوم الخندق عندها تداوي جرحه حتى مات وشهدت خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأسهم لها بسهم رجل(19).
روى الطبراني برجال الصحيح عن أم سليم - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو معه النسوة من الأنصار لسقي المرضى وتداوي الجرحى.
وروى أبو يعلى عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يدلجن بالقرب يسقين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الجهاد(20).
قال الهيثمي: ورجاله ثقات(21).
روي أنه كانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغزوان مع النبي صلى الله عليه وسلم فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة(22).
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قسم مروطا بين نساء من نساء المدينة فبقي مرط جيد فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك يريدون أم كلثوم بنت علي فقال عمر أم سليط أحق وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد قال أبو عبدالله تزفر تخيط(23).
المطلب الثاني: اختلاف العلماء في مشاركة المرأة في القتال
تحرير محل النزاع:
هناك عدة مسائل يجب أن نقررها بين يدي البحث، وهي:
أولا: أن الجهاد غير واجب على النساء مطلقا.
قال ابن بطال: إن النساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات في قوله: (انفروا خفافا وثقالا) وهذا إجماع من العلماء(24).
ثانيا: يجوز للنساء أن يتطوعن بالخدمة للمقاتلين.
لقد اتفق العلماء من حيث الجملة على مشروعية خروج المرأة مع المقاتلين للخدمة، قال محمد بن رشد: لا خلاف في جواز خروج النساء في الغزو مع الجيش المأمون، ليخدمن الغزاة(25).
ثالثا: وجوب قتال النساء في النفير العام:
قال الكاساني: هذا إذا لم يكن النفير عاما، فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه، لقوله سبحانه وتعالى: (انفروا خفافا وثقالا)، قيل: نزلت في النفير.
وقوله سبحانه وتعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)، ولأن الوجوب على الكل قبل عموم النفير ثابت لأن السقوط عن الباقين بقيام البعض به فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل فبقي فرضا على الكل عينا بمنزلة الصوم والصلاة، فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها، والولد بغير إذن والديه(26).
اختلاف العلماء في مشاركة النساء في القتال
اختلف العلماء في حكم مشاركة النساء في الغزو للقتال أو الأعمال المساندة كمداوة الجرحى وسقي الماء للجيش، على عدة أقوال:
القول الأول: يجوز مشاركة المرأة في الغزو لخدمة الغزاة فقط:
وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو ما رجحه الإمام البخاري، قال الإمام مالك: كان النساء يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوه يسقين الماء ويداوين الجرحى(27).
وقال محمد بن رشد: لا خلاف في جواز خروج النساء في الغزو مع الجيش المأمون ليخدمن الغزاة، ولا سهم لهن من الغنيمة واختلف هل يحبين منها دون قسم؟ فلم ير ذلك مالك، واستحبه ابن حبيب(28).
وقال النووي: قوله: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيسقين الماء، ويداوين الجرحى»، فيه خروج النساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة ونحوهما، وهذه المداواة لمحارمهن وأزواجهن، وما كان منها لغيرهم لا يكون فيهمس بشرة إلا في موضع الحاجة(29)، وقال: «أرى خدم سوقها»، هو بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة الواحدة، خدمة وهي الخلخال، وأما السوق فجمع ساق، وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي، لأن هذا كان يوم أحد، قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن، ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد، ولم يستدمها.
وقوله: «نحري دون نحرك» هذا من مناقب أبي طلحة الفاخرة، قوله: «على متونهما»، أي على ظهورهما، وفي هذا الحديث اختلاط النساء في الغزو برجالهن في حال القتال لسقي الماء ونحوه(30).
وقال الشبيهي في الفجر الساطع على قوله في هذه الترجمة وتداوي الجرحى قال القرطبي معناه: إنهن يهيئن الأدوية للجراح ويصلحنها، ولا يلمسن من الرجال ما لا يحل ثم أولئك النساء إما متجالات (أي كبيرات) فيجوز لهن كشف وجههن، وأما الشواب فيحتجبن(31).
أدلة هذا القول:
أولاً: من السنة:
عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة»، رواه أحمد والبخاري.
وعن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى وأقوم على الزمنى»، رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.
قال الشوكاني: قوله «عن الربيع» بالتشديد، وأبوها معوذ بالتشديد للواو وبعدها ذال معجمة، قوله: «كنا نغزو.. إلخ» جعلت الإعانة للغزاة غزوا، ويمكن أن يقال إنهن ما أتين لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا وهن عازمات على المدافعة عن أنفسهن، وقد وقع في صحيح مسلم عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين فقالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه(32).
ثانياً: من المعقول:
إن هذا على عادة نساء العرب في الانتهاض والنجدة والجرأة والعفة، وخصوصا نساء الصحابة، فإن اضطر لمباشرتهن بأنفسهن جاز، والضرورات تبيح المحظورات. وقال ابن زكري فيه معالجة الأجنبية للرجل للضرورة(33).
القول الثاني: منع مشاركة المرأة في الغزو مطلقاً:
وقد ذهب إلى ذلك ابن حجر من الشافعية، فقد منعوا مشاركة المرأة في الغزو مطلقا، وأن الأحاديث الواردة بالجواز منسوخة.
وقال الشوكاني: ليس في قوله «أفضل الجهاد حج مبرور»، وفي رواية البخاري: «جهادكن الحج» ما يدل على أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن واجبا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال(34).
أدلة هذا القول:
روى الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح عن أم كبشة امرأة من عذرة - عذرة بني قضاعة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، ائذن لي أن أخرج في جيش كذا وكذا، قال: لا، قالت: يا رسول الله، إنه ليس أريد أن أقاتل، إنما أريد أن أداوي الجرحى، وأسقي المرضى، قال: لولا أن يكون سنة، ويقال: إن فلانة خرجت لأذنت لك ولكن اجلسي.
وفي رواية: أخرجه بن سعد عن بن أبي شيبة وفي آخره اجلسي لا يتحدث الناس أن محمدا يغزو بامرأة.
قال ابن حجر: ويمكن الجمع بين هذا وبين ما تقدم في ترجمة أم سنان الأسلمي، أن هذا ناسخ لذاك، لأن ذلك كان بخيبر، وقد وقع قبله بأحد كما في الصحيح من حديث البراء بن عازب، وكان هذا بعد الفتح(35).
القول الثالث: يجوز مشاركة المرأة بالقتال عند الضرورة فقط:
وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية حيث قال: وفي المغازي أنها قالت: ألا نقاتل يا رسول الله هؤلاء الفرارين فنقتلهم كما قاتلنا المشركين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عافية الله أوسع» وأية حاجة إلى قتال النساء أشد من هذه الحاجة حين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموه، وفي هذا بيان أنه لا بأس بقتالهن عند الضرورة، لأن الرسول لم يمنعها في تلك الحالة، ولم ينقل أنه أذن للنساء في القتال، في غير تلك الحالة(36).
القول الرابع: يجوز للمرأة أن تقاتل مع الرجال.
وهو ما رجحه البخاري، حيث بوّب البخاري في صحيحه باب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال(37)، مما يدل على ترجيحه ذلك.
القول الخامس: لا يجوز للمرأة القتال، ويجوز للطاعنة بالسن خدمة الغزاة:
وهو قول الأوزاعي، ومذهب الحنابلة، حيث قال ابن قدامة: يكره دخول النساء الشواب أرض العدو، لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن، ولا يؤمَن ظفر العدو بهن، فيستحلون ما حرم الله منهن(38).
وقال ابن قدامة أيضا: ويجوز أن يأذن للطاعنة في السن لسقي الماء، ومعالجة الجرحى(39).
وقيل للأوزاعي: هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف؟ قال: لا إلا بالجواري، فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى، فلا بأس به(40).
القول السادس: يجوز مشاركتها في خدمة الغزاة بشرط عدم دخول أرض العدو:
وهو قول لبعض الحنابلة، حيث قال الزركشي: لا تدخل النساء مع المسلمين أرض العدو، حذرا من ظفر العدو بهن، واستحلال ما حرم الله منهن، مع أنهن لسن من أهل القتال(41).
القول السابع: يجوز مشاركتها في خدمة الغزاة إذا كان العسكر كثيرا تؤمن عليه الغلبة:
وهو لبعض الحنفية وبعض المالكية، فذهب محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة إلى القول بأن الحاجة إلى المرأة تتحقق بخروج الكبيرة القادرة، وتمنع الشابة خشية الفتنة، حيث قال: «لا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة، فتداوي الجرحى وتسقي الماء، وتطبخ للغزاة، إذا احتاجوا إلى ذلك، لحديث عبدالله بن قرط الأزدي قال: كانت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات، يحملن الماء للمجاهدين يرتجزن، وهو يقاتل الروم.
والمراد العجائز، فالشواب يمنعن عن الخروج الفتنة، والحاجة ترتفع بخروج العجائز فالشواب يمنعن عن الخروج لخوف الفتنة.
وذكر عن أم مطاع وكانت شهدت خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: رأيت أسلم، حيث شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من شدة الحال، فندبهم إلى الجهاد فنهضوا، ولقد رأيت أسلم أول من انتهى إلى الحصن فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله علينا وهو حصن الصعب بن معاذ بالنطاة(42)، ففي هذا بيان أنها كانت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمنعها من ذلك، فعرفنا أنه لا بأس للعجوز أن تخرج لإعانة المجاهدين بما يليق بها من العمل(43).
وقال ابن عبدالبر: خروجهن مع الرجال في الغزو مباح، إذا كان العسكر كثيرا تؤمن عليه الغلبة، وفي الصحيح من حديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى(44).
الراجح في مسألة مشاركة النساء في القتال
والذي يترجح في حكم مشاركة المرأة في القتال أن مرجع ذلك هو تقدير المصلحة من ولي أمر المسلمين، بحسب اختلاف الأحوال، بما يحقق المصلحة للمسلمين، ووجود الحاجة لهن، والسلامة لمن شارك منهن، بالضوابط التالية:
وجود الحاجة لمشاركتها.
ألا تباشر القتال بنفسها، إلا دفاعا عن النفس.
أن تكون في المهام المساعدة للمقاتلين.
التزامها بالستر والحجاب.
ألا يترتب على مشاركتها في القتال فتنة.
لما ثبت في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بعض النساء في بعض غزواته، ومنعهن في غزوات أخرى.
المطلب الثالث: مهام المرأة في الغزو وسهمها
أولاً: مهام النساء المساندة للغزاة في الحرب:
من خلال استعراض التشريع الإسلامي نجد أن مشاركة المرأة في القتال تكون في مهام عديدة، مثل:
السقي للمسلمين.
حمل المصابين.
مداواة الجرحى.
رد السهام.
جر المنجنيق(45)، حيث قال المقريزي: كانت النساء الصالحات يسقين الماء في وسط القتال، ويعملن في جر المجانيق(46).
ثانياً: حكم من ماتت في الجهاد في سبيل:
إن للنساء المشاركات في القتال من غير مباشرة أجر الشهيد، ولو لم تقاتل، قال عمر رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل في سبيل الله أو مات فهو في الجنة».
قال العيني في شرح صحيح البخاري: فيه دلالة على أن من مات في طريق الجهاد من غير مباشرة ومشاهدة، له من الأجر مثل ما للمباشر، وكانت النساء إذا غزون يسقين الماء ويداوين الكلمى، ويصنعن لهم طعامهم وما يصلحهم، فهذه مباشرة.
وفيه: أن الموت في سبيل الله والقتل سواء، أو قريبا من السواء في الفضل، قاله أبوعمر، قال: وإنما قلت: أو قريبا من السواء، لاختلاف الناس في ذلك، فمن أهل العلم من جعل الميت في سبيل الله، والمقتول سواء، واحتج بقوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) (الحج: 85).
وبقوله: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله)، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عتيك: «من خرج مجاهدا في سبيل الله فخر عن دابته أو لدغته حية أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله»، وفي مسلم عن أبي هريرة، يرفعه: «من قتل في سبيل الله فهو شهيد»(47).
ثالثاً: حكم استحقاق النساء السهم من الغنيمة:
اختلف العلماء هل يضرب للمرأة سهم من الغنيمة في حال مشاركتها في القتال، وذلك على قولين:
القول الأول: لا سهم لهن من الغنيمة:
وهو قول الجمهور(48)، والظاهرية(49)، قال ابن رشد: ولا سهم لهن من الغنيمة، واختلف هل يحبين منها دون قسم؟ فلم ير ذلك مالك، واستحبه ابن حبيب(50).
القول الثاني: لهن سهم من الغنيمة كالرجال:
ذهب أصحاب هذا القول ومنهم الأوزاعي(51)، إلى أن للنساء سهما من الغنيمة كالرجال، واستدلوا بما روي عن ابن إسحاق في قصة سعد بن معاذ لما أصيب يوم الخندق فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد حتى أعوده من قريب»، وكانت امرأة تداوي الجرحى وتحبس نفسها على خدمة من كان ضيعة من المسلمين، وكان سعد بن معاذ حين رمي يوم الخندق عندها تداوي جرحه حتى مات وشهدت خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأسهم لها بسهم رجل.
وما روي عن خالد بن سيحان قال: شهدت تستر، فكان فينا أربع نسوة منهن أم مجزأة، فكن يسقين الماء ويداوين الجرحى، فأسهم لهن أبو موسى(52).
المطلب الرابع: أعلام الصحابيات المشاركات في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم
لقد ورد في كتب السنة والسير أخبار عدة عن الصحابيات الجليلات اللائي خرجن وشاركن في الغزوات، وحالهن مع القتال، ومن ذلك ما يلي:
في غزة أحد:
كان للنساء دور فاعل في معركة أحد، ومنهن:
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
أم سليم رضي الله عنها.
أم أيمن رضي الله عنها.
فعن أنس قال لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما مشمرتان أرى خدم خلاخل سوقهما تنغزان، تنقلان الماء على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم(53).
وقال محمد بن عمر: قد حضرت أم أيمن أحدا وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى(54).
بقية غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم:
1 - رفيدة الأنصارية أو الأسلمية.
عن ابن إسحاق قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصاب سعدا السهم بالخندق قال لقومه: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب»، وكانت امرأة من أسلم، في مسجده، فكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به فيقول: كيف أمسيت وكيف أصبحت؟ فيخبره(55).
2 - ليلى الغفارية:
عن موسى بن القاسم التغلبي، قال: حدثتني ليلى الغفارية: «أنها كانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه تداوي الجرحى، وتقوم على المرضى»(56).
وعن امرأة من بني غفار قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول الله، إنا قد أردنا أن نخرج معك في وجهك هذا إلى خيبر فنداوي الجرحى ونعين المسلمين. فقال رسول الله: «على بركة الله»(57).
3 - معاذة الغفارية:
عن عمرة قالت: قالت لي معاذة الغفارية: كنت أنيسا برسول الله، أخرج معه في الأسفار، أقوم على المرضى وأداوي الجرحى، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت عائشة وعلي رضي الله عنهما خارج من عنده، فسمعته يقول: «يا عائشة، إن هذا أحب الرجال إليّ وأكرمهم عليّ، فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه»(58).
4 - أم أيمن:
لقد شهدت أم أيمن رضي الله عنها غزوة خيبر، حيث قال محمد بن عمر: وقد حضرت أم أيمن أحدا وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى، وشهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(59).
5 - أم زياد الأشجعية:
عن حشرج بن زياد الأشجعي، عن جدته أم أبيه: أنها غزت مع النبي يوم خيبر سادسة ست نسوة، فبلغ النبي، فبعث إلينا فقال: بإذن من خرجتن؟ ورأينا فيه الغضب، فقلنا: خرجنا ومعنا دواء نداوي به الجرحى، ونناول السهام، ونسقي السويق، ونغزل الشعر، ونعين في سبيل الله. فقال لنا: أقمن. فلما فتح الله عليه خيبر قسم لنا كما قسم للرجال، فقلت: ما كان؟ قالت: تمرا(60).
6 - أم سنان الأسلمية:
ورد في طبقات ابن سعد في ترجمة أم سنان الأسلمية قالت لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر جئته قلت يا رسول الله أخرج معك أخرز السقاء وأداوي المريض والجريح إن كانت جراح وأبصر الرحل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخرجي على بركة الله فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم فإن شئت فمع قومك وان شئت فمعنا قلت: معك قال فكوني مع أم سلمة زوجتي، قالت فكنت معها.
7 - أم ورقة الأنصارية:
وقد ترجم الشامي في سيرته استصحابه صلى الله عليه وسلم بعض النساء لمصلحة المرضى والجرحى، ومنعه من ذلك في بعض الأوقات، فذكر قصة حديث ليلى الغفارية وعزاها للطبراني ثم ذكر أن الطبراني خرج برجال الصحيح عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بنا نسوة من الأنصار نسقي الماء ونداوي الجرحى.
8 - أم سليم الأنصارية:
عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى(61).
وعن أنس أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها فرآها أبو طلحة فقال يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الخنجر قالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك قالت يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن(62).
9 - أم عمارة الأنصارية:
ورد في ترجمة أم عمارة الأنصارية عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني وفي العتبية.
ونقل الشيخ عبدالغني النابلسي في شرح الطريقة المحمدية عن والده أن ابن الزبير لما مرض بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجله وتفلي رأسه(63).
10 - كعيبة الأسلمية:
كانت كعيبة بنت سعد الأسلمية، قد بايعت بعد الهجرة، وهي التي كانت تكون في المسجد لها خيمة تداوي المرضى والجرحى وكان سعد بن معاذ حين رمي يوم الخندق عندها تداوي جرحه حتى مات وقد شهدت كعيبة يوم خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(64).
11 - أم مطاع الأسلمية:
أسلمت أم مطاع الأسلمية بعد الهجرة وبايعت وشهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(65). فأسهم لها سهم رجل(66).
الهوامش
1 - صحيح البخاري (3/1054).
2 - صحيح البخاري (3/1055).
3 - صحيح البخاري (3/1055).
4 - صحيح البخاري (3/1056).
5 - صحيح البخاري (3/1056).
6 - صحيح البخاري (3/1056).
7 - صحيح مسلم (3/1442).
8 - صحيح مسلم (1444).
9 - صحيح البخاري (3/156).
10 - صحيح البخاري (3/156).
11 - صحيح البخاري (3/156).
12 - صحيح البخاري (3/156).
13 - صحيح البخاري (3/156).
14 - رواه مسلم (3/1443)، وسنن الترمذي (4/139).
15 - رواه مسلم (3/1444).
16 - المغني (9/175).
17 - جامع الحديث (19/247).
18 - فتح الباري (7/412).
19 - التراتيب الإدارية (1/454).
20 - مسند أبي يعلى (6/55).
21 - مجمع الزوائد جزء 3 صفحة 133.
22 - المغني (9/175).
23 - صحيح البخاري (3/156).
24 - شرح ابن بطال (5/75).
25 - البيان والتحصيل (17/561).
26 - بدائع الصنائع (7/98)، والموسوعة الفقهية الكويتية جزء 21 صفحة 268.
27 - البيان والتحصيل (17/561).
28 - البيان والتحصيل (17/560).
29 - شرح صحيح مسلم (12/189).
30 - شرح مسلم (12/190).
31 - التراتيب الإدارية (2/113).
32 - نيل الأوطار (8/63).
33 - التراتيب الإدارية (2/113).
34 - نيل الأوطار (8/63).
35 - الإصابة في تمييز الصحابة (8/283).
36 - شرح كتاب السير الكبير جزء 1 صفحة 185
37 - صحيح البخاري (3/1055).
38 - المغني (9/175).
39 - الكافي (4/264).
40 - المغني (9/175).
41 - شرح الزركشي (3/172).
42 - النطاة: عين بخيبر تأخذ بحمى شديدة (العين 7/454)، وقيل: عين ماء بخيبر تسقي نخيل بعض قراها وهي فيما زعموا وبيئة، وقد ذكرها الشاعر فقال يذكر محموما: كأن نطاة خيبر زودته بكور الورد ريثة القلوع (14/23).
43 - شرح كتاب السير الكبير جزء 1 صفحة 185
44 - طرح التثريب في شرح التقريب (8/49).
45 - السلوك لمعرفة دول الملوك (2/21).
46 - المجانيق: جمع منجنيق هو ما يرمى به على الحصون في الحصار، قال في الصحاح: وهي التي يرمي بها الحجارة، معربة، وأصلها بالفارسية سنجي نيك: أي: ما أجودني، وهي مؤنثة، وجمعها منجنيقات، ومجانيق. (اللباب في شرح الكتاب1/397).
47 - عمدة القاري (14/88).
48 - المدونة الكبرى (3/33) وابن بطال (5/77).
49 - المحلى (7/334).
50 - البيان والتحصيل (17/561).
51 - شرح ابن بطال (5/77).
52 - مسائل الإمام أحمد رواية صالح (2/354)، ومصنف ابن أبي شيبة (6/493).
53 - مسند أبي يعلى (7/24)، والتراتيب الإدارية (2/115).
54 - الطبقات الكبرى (8/ 325).
55 - أسد الغابة (7/122).
56 - أخبار المكيين (177).
57 - أسد الغابة (7/433).
58 - أسد الغابة (7/289)، والإصابة (8/107).
59 - الطبقات الكبرى (8/225)، والإصابة (8/172).
60 - أسد الغابة (7/363).
61 - صحيح مسلم (3/1443).
62 - صحيح مسلم (3/1443)، والأوسط (11/183).
63 - التراتيب الإدارية (2/113).
64 - الطبقات الكبرى (8/291).
65 - الطبقات الكبرى (8/292).
66 - أسد الغابة (7/433).
تأليف معالي الشيخ أ.د. سيد محمد سيد عبدالرزاق الطبطبائي