نعم من عاش في هذه الدنيا لا تنقضي حاجاته، فتجدنا نذهب صباح مساء في طلب الدنيا لا نكل ولا نمل، فما دام الإنسان حيا فهو في سعي دؤوب وسير لا ينقطع، صحيح أن المولى عز وجل أمرنا بالسعي في مناكبها ولكن ليس بالصورة التي نراها في زماننا هذا، متناسين قول الله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) «الذاريات: 22»، وإذا رحل المرء وفارق الدنيا انتهت هذه الحاجات وجاءت حاجته الكبرى وهي صحيفة أعماله ومثلما أمرنا الله بالسعي أمرنا أيضا بألا نجعل الدنيا أكبر همنا وأن نستعد ليوم الحساب، فمثلما نسعى بإصرار على الدنيا علينا أن نكون مستعدين للقاء الله تعالى، فما الذي أعددناه لهذا اليوم بعد أن ترحل وحيدا منفردا بلا أهل ولا مال، وبفيه التراب وهو الخاسر الأكبر من لقي ربه صفر اليدين، ولم لا نكون كقول القائل: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» يقول الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
مـر الغــداة وكـر العشـى
نـروح ونغــدو لحاجاتنــا
وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المـرء حاجاته
وتبقـى له حاجة ما بقي
السعي وراء الرزق أمر محمود، ولكن الحرص المفرط على ذلك مذموم جملة وتفصيلا، وعندما تطغو المادة على عقل المرء يكون بلا مشاعر وربما لا يرى أهله إلا مرة في اليوم، علما بأن الجري وراء المال لن يغير ما قضاه الله تعالى لك، والطامة إن طغت المادة على القيم والأخلاق، والعجيب حقا أن بعض الناس ممن يلهثون وراء الدنيا أنهم أصبحوا يحبون للدنيا ويكرهون لها، يقاتلون من أجلها، وإذا سمعوا داعي الدنيا لبوه مسرعين وإذا سمعوا داعي الله تقاعسوا وكسلوا.
انظر إلى مالك الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن
سئل حكيم: لم نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، لذا فأنتم تكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، لقد تجرد اللاهثون وراء الدنيا من إنسانيتهم إلا من رحمه الله، ولم يعودوا يروا الدنيا إلا من منظار المال فقط، نسوا الله فأنساهم أنفسهم ولو تصالحوا مع أنفسهم لكانوا في أحسن حال، ولكن الله عز وجل له في خلقة شؤون وإليه تصير الأمور، ودمتم سالمين.