لم أستطع التوقف عن التفكير في الأسباب التي توقع عشرات الآلاف من المصريين ذوي درجات التعليم المختلفة، ضحايا لعمليات النصب الجماعية التي يديرها ما يطلق عليهم مجازا مصطلح «المستريحون».
..عدا الطمع، ما الذي يدفع إنسانا راشدا عاقلا إلى تسليم تحويشة العمر أو بيع ذهب زوجته أو التوكتوك الذي كان يعمل عليه أو «الدكان» الصغير الذي «يستره» ويعطي ثمن ذلك راضيا.. وربما لجأ للوساطات!! - إلى شخص ما- منتظرا من هذا «النصاب» أن يسلمه شهريا «عائدا» على أمواله يصل إلى نسب مئوية لا يصدقها إلا من ذهب عقله؟!
أعلم ان التفسير الأبسط الذي يرد إلى الذهن هو «الطمع» وأنه لولا وجود «الطماع» لما وجد النصاب رزقا!! ولكن حصر السبب في «الطمع» وحده يعد تبسيطا مخلا للأمر.
..ولا أعلم حقيقة ما الذي دفع إلى ذاكرتي - التي بدأت المعاناة من زهايمر مبكر! - مشهدا يعود إلى عام 1970 أو 1971 وكان عمري وقتها أقل من أن يعد على أصابع اليدين، وكنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في بيت جدي لأبي، استيقظت مبكرا جدا ولأول مرة أسمع صوت جدتي - مرتفعا نسبيا - فقد كانت - رحمها الله - نموذجا للهدوء والطيبة المصرية، لا تكاد تسمع لها صوتا أبدا، وجدتها تجادل جدي محاولة إثناءه عن الخروج المبكر والمكوث في البيت، وكان - رحمه الله - رياضيا ذا صدر عريض وشارب مفتول، وفهمت أنه قد خرج على المعاش من سلك الشرطة الذي انتمى إليه طوال حياته، وبدلا من الراحة في البيت، ومحاولة عدم الاستيقاظ فجرا كل يوم، سارع ليجد لنفسه عملا - بعد المعاش - في إحدى الجمعيات الخيرية.
لم يستمر الجدل الهادئ سوى دقائق معدودات حسمها جدي بأن أمسك بين يديه بجهاز رياضي بدائي مكون من مقبضين و5 شرائط زنبركية حديدية (سوستة) وبدأ يفردها أمام صدره الواسع، ثم وبنفس النشاط أكمل ملابسه وتأكد من لمعة حذائه، وقبل أن يتجه للباب، لمحني أتابع الموقف فاقترب واحتضنني وقرأ - كعادته - المعوذتين وهو يضع يده على رأسي، ثم تحدث بصوت خفيض، لم أدرك إن كان يهمس لي أو يتحدث لنفسه قائلا: «الراجل اللي ربنا مديله صحة وميشتغلش ربنا يحاسبه، والراجل الصح يا ولدي تعرفه من أعماله، ثم قرأ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (التوبة: 105).
وطبع قُبلة على رأسي.. وخرج.
هكذا كنا.. فماذا أصبحنا؟.. وغداً للحديث بقية إن كان في العمر بقية.
وحفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.
www.hossamfathy.net
Twitter: @hossamfathy66
Facebook: hossamfathy66
Alanba email ID
[email protected]