يقول كاتب هذه السطور: «من لم يتعلم من التاريخ لا يفكر في صعود المريخ»، أي إذا لم تأخذ العبرة ممن سبقوك فلا جدوى لطموحك، لأنك بالتأكيد سوف تفشل، كما أنا الآن عزيزي القارئ، لقد فشلت في أمور كثيرة، وليس عيبا أن أذكرها، بل العيب أن أكابر عليها، ولست أنا الوحيد الذي فشل، فهناك الكثير من أبناء جلدتنا ممن فشلوا ويفشلون الآن وسوف يفشلون في المستقبل، وليس الفشل هنا في كل الأمور، بل في جانب من جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال ولنعتبر جميعا، فشلي كان عدم كشفي «للخب» أي المخادع الذي لا يوثق به ولا يستقر على رأي لأنه دوما يفكر في الغدر، وكأنه يصنع بطولات في هذا الأمر.
في أحد المساجد العامرة بالناس في جميع الأوقات، لاحظ إمام المسجد أحد الشباب يأتي قبل الأذان ويذهب بعد الصلاة بفترة، لا يكلم أحدا ولا يلتفت لأحد، يدخل لمكان محدد في إحدى الزوايا، يأخذ المصحف ويطأطئ رأسه ولا يرفعه إلى وقت الإقامة، ويكرر الأمر بعد الصلاة وفي كل صلاة، فمن باب الفضول يقول الإمام: تقدمت ووقفت فوق رأسه لوهلة فلم يعرني اهتماما، رميت السلام عليه فرد السلام بكل أدب واحترام وبصوت عذب وخافض دون أن يرفع رأسه، فزاد الفضول بي وقلت: يا هذا ما الذي جعلك تختلي بنفسك وأنت في بيت من بيوت الرحمن والجميع يأتي ليتعبد الله فلا نية للبيع لديهم ولا شراء سوى ذكر وصلاة واستغفار! فنظر لي بعين واحدة مبتسما، وقال: أيها الإمام لقد عرفتك من صوتك ولو كان أحد غيرك فلن أعير له أمرا».
فتملكني الفضول أكثر وأسهبت في حديثي معه عن الدنيا وفضائلها حتى قال: كيف تريدني أن أشعر بالاستقرار النفسي والمستقبل المشرق مع كثرة المنافقين والمخادعين من البشر، فالكثير منهم يقوم بواجباته الدينية ولا يمتثل لما تتضمن تلك الواجبات، والقصص والحكايات كثيرة، فكم من كريم اتهموه بما ليس فيه، وكم من عظيم أساءوا إليه، وكم من مصائب أشعلوها بين الناس، وكم، وكم، يا شيخ.
أحزنني هذا الشاب الفذ، يقول الإمام: «فدعوته لفنجان قهوة باستحياء خوفا من رفضه، فقال: «أمر طيب إذا تركت الحساب علي ونوع القهوة عليك»، ففرحت لقبوله دعوتي وقلت:«موافق، هيا بنا»، ومن خبرتي السابقة في أحوال الناس أيقنت أن هذا الشاب خلوق وطيب وكريم ومتسامح وشهم، ويقضي حوائج الناس دون مقابل دنيوي، وقد خاب ظنه في كثير من معارفه وأصحابه وأقاربه، يقول الإمام: لقد أحببت هذا الشاب من الوهلة الأولى وعزمت الأمر على تغيير حاله وإعادته إلى ما كان عليه قبل عقد من الزمان حسبما فضفض لي في بعض الأمور الخاصة والخاصة جدا.
فقلت له: ما أنت عند (الخليفة المعتصم بالله)؟ فقال: «لا شيء»، فقلت: هل تعلم بأنه خدع من وزيره «العلقمي» لمدة أربعة عشر عاما؟ فما أنت عند الخليفة لتحمل كل هذه الهموم من خداع البشر فوق رأسك؟ إن المخادعين والمنافقين يا بني لا يعطلون نواميس الكون، ولا يستطيعون الحصول على مرادهم عند أهل اليقظة والبصيرة والحذر، فغير نظرتك للكون وكن ممن يأخذون مقاييس الشرع في التعامل مع الناس، فالمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين.
* أرجوحة أخيرة: بعد غياب عشرة أشهر عن بلدي وأبناء بلدي، سوف أعود متسلحا بمقاييس الشرع الصحيحة في تعاملي مع الناس. وللحديث بقية عن «العلقمي» والمعتصم بالله في المقال القادم. وكل عام وأنتم بخير.