في الثامن من فبراير 2022، التقى رجلان من ذوي النفوذ - أحدهما رجل دين والآخر قائد عسكري وكلاهما من أبناء المذهب الشيعي - لمناقشة مستقبل السياسة العراقية ودور إيران المهيمن فيها. ولم تسر الأمور على ما يرام.
حينها زار القائد العسكري الإيراني البريجادير جنرال إسماعيل قاآني رجل الدين العراقي السيد مقتدى الصدر في داره.
والصدر رجل نافذ قاتل القوات الأميركية خلال سنوات الاحتلال الأميركي للعراق وله ملايين من المؤيدين في أنحاء العراق، بعضهم عناصر بفصائل مسلحة.
أما قاآني فهو قائد فيلق القدس، جناح الحرس الثوري الإيراني المسؤول عن العمليات العسكرية والاستخباراتية خارج الحدود الذي يستخدمه نظام طهران لبسط هيمنته في الخارج، وهو المكلف من قبلها بالحفاظ على نفوذها في العراق.
وبحسب أربعة مسؤولين عراقيين وإيرانيين مطلعين على تفاصيل المقابلة التي استغرقت نصف الساعة بمدينة النجف، استقبل الصدر القائد الإيراني بجفاء واضح. كان يضع على كتفيه كوفية الجنوب العراقي بلونيها الأبيض والأسود ويضع عباءة بنية، في هيئة محلية متعمدة تتناقض مع الثياب السوداء بالكامل والعمامة السوداء التي يعتمرها عادة في المناسبات العامة.
كان ملبس الصدر، حسبما قال المسؤولون، ينقل رسالة سياسية قومية خلاصتها: العراق، كدولة عربية ذات سيادة، سيشق طريقه بنفسه، دون تدخلات من جارته، على الرغم من الروابط بين البلدين.
تحدى الصدر القائد الإيراني بحسب أحد المسؤولين وقال «ما علاقة السياسة العراقية بكم؟.. لا نريدكم أن تتدخلوا».
وكان الصدر، حسبما ذكر المسؤولون، يغمره شعور بالثقة بعد سلسلة من المكاسب السياسية حققها تحالفه العراقي الناشئ (إنقاذ وطن) أمام إيران وأنصارها العراقيين لكنهم يرون طهران أفضل حليف للحفاظ على السلطة.
ورغم مساعي الصدر للبقاء في موقع يتجاوز معترك السياسات التحزبية، ورغم إحجامه عن السعي لاقتناص منصب لنفسه، ظل قوة حاسمة في العراق طوال العقدين الماضيين منذ عام 2003.وبالإ
ضافة إلى ما حققه من سطوة في صندوق الاقتراع عبر جحافل الناخبين الصدريين، تمكن الصدر من إدخال مساعديه في وزارات مهمة ووظائف حكومية عليا أخرى، بما يضمن له إحكام قبضته على جانب كبير من مفاصل الدولة العراقية.
وفي عام 2019، انضم أنصاره إلى احتجاجات مناهضة للفساد أطاحت بحكومة قادتها أحزاب متحالفة مع إيران. وفي أكتوبر الماضي، تفوق مؤيدوه على تلك الأحزاب في الانتخابات البرلمانية، مما فتح الباب أمام تشكيل حكومة يمكن أن تخرج العراق بالكامل من فلك إيران. ومن هنا جاءت زيارة قاآني.
كان القائد الإيراني متوجسا حسبما ذكر المطلعون على تفاصيل الزيارة. وظل يسعى إلى الاجتماع لأشهر، ودأب على زيارة العراق، وفي مرة صلى علانية عند قبر والد الصدر. ونقل المسؤولون الإيرانيون عن قاآني قوله إنه إذا ضم الصدر حلفاء طهران إلى أي ائتلاف، فستعتبر إيران الصدر الشخصية السياسية الشيعية الرئيسية بالعراق، وهي إيماءة ليست بالهينة بين القيادة الشيعية المنقسمة.
وظل الصدر ثابتا، وشدد في تغريدة عقب الاجتماع مع المسؤول الايراني على التزامه بحكومة خالية من التدخل الأجنبي، وقال في الرسالة الخطية التي نقلت بالمسح الضوئي على تويتر «لا شرقية ولا غربية.. حكومة أغلبية وطنية».
وكان هذا الصد أكبر بكثير من كون الأمر مجرد اجتماع فاشل.
وفي الأشهر التي تلت ذلك، لم يشكل الصدر وحلفاؤه ولا الأحزاب المتحالفة مع إيران ائتلافا لخلافة الإدارة المؤقتة بقيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وهو مرشح توافقي يدير الحكومة إلى أن يقر البرلمان إدارة جديدة تحل محله حكومته.
وبلغت خيبة الأمل من الصدر مبلغها بسبب جمود الوضع والضغط الإيراني حتى أنه أمر في يونيو 2022 نواب تياره في البرلمان البالغ عددهم 73 نائبا، أي ما يقرب من ربع أعضاء البرلمان، بالانسحاب من مجلس النواب.
وفي يوليو وأغسطس 2022، قاد الآلاف من أنصاره في اعتصام طويل بالمجلس.
وتثير حمية الصدر قلق الكثيرين ممن يخشون أن يؤجج التوتر الحالي مزيدا من القلاقل وربما مزيدا من العنف داخل العراق وفي أنحاء الشرق الأوسط.
ولفهم أفضل لحالة عدم الاستقرار التي تجتاح العراق، تحدثت «رويترز» إلى أكثر من 40 من المسؤولين العراقيين والإيرانيين والسياسيين والديبلوماسيين الأجانب والسكان المحليين. وتحدث بعض المسؤولين، بمن فيهم من وصفوا الاجتماع المشار إليه بين الصدر وقاآني، شريطة عدم الكشف عن هويتهم.
فقد قال وليد الدهامات، وهو مدرس في بلدة العمارة الجنوبية الفقيرة وشقيق ناشط محلي قتله مسلحون مجهولون في 2019، «تدور معركة سياسية في بغداد، ونحن عالقون وسطها».
من جهته، قال آندرو بيك، المتخصص السابق في شؤون العراق بوزارة الخارجية الأميركية والزميل الحالي في المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، «مصالح الولايات المتحدة وتحالف الصدر تداخلت».
وأضاف قائلا إن شقاق الصدر وطهران هو «أكبر تهديد للنفوذ الإيراني في العراق، اللحظة التي ربما تحمل تحديا فعليا».
وقال مسؤولان إيرانيان مطلعان على المناقشات التي جرت في وقت سابق من هذا العام لرويترز إن طهران طلبت من قاآني، خليفة قاسم سليماني، الحفاظ على وحدة الفصائل الموالية لها والسعي إلى عقد الجلسة الحاسمة مع الصدر.
وقال عدد من مستشاري زعيم التيار الصدري لرويترز بعد ثلاثة أيام من مقابلة الصدر وقاآني التي شابها التوتر، إن الصدر استدعى مساعديه لمنزله. وأضافوا أنه كان محبطا بشكل واضح بسبب تصاعد التوتر، وقال أحد المستشارين، الذي تطابقت روايته حول الاجتماع مع روايتي اثنين آخرين من كبار التيار الصدري على دراية بالاجتماع «لقد أخبر سماحة السيد الحضور بالتالي: خصومنا الآن ليس فقط من يعارض حكومة أغلبية وطنية، بل خصمنا أيضا الآن هو الدولة الجارة، لذلك توقعوا الكثير من المصاعب والعقبات في الأيام القادمة وعلينا جميعا أن نتوكل على الله لمواجهة الضغوطات الهائلة المسلطة علينا الآن وفي الأيام القادمة».