حينما يرفع سبابته ويعقد حاجبيه، يحبس العراق أنفاسه: مازال الزعيم الشيعي مقتدى الصدر المتهم بأنه سريع الغضب، يحتفظ تحت هالة رجل الدين، بدور يشكل كفة راجحة في التوازن السياسي في البلاد.
وأظهر الصدر رجل الدين المعروف بعمامته السوداء، من جديد لخصومه السياسيين أنه مازال يتمتع بقاعدة شعبية واسعة وقادر على حشد مناصريه وخلط الأوراق في المشهد السياسي.
وفي بيان مقتضب أعلن الصدر امس الاعتزال النهائي للعمل السياسي، كما أعلن إغلاق كافة المؤسسات المرتبطة بالتيار الصدري «باستثناء المرقد الشريف (لوالده محمد الصدر المتوفى عام 1999)، والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر»، ورد أنصاره على ذلك باقتحام مقر رئاسة الوزراء.
لقد قرر الصدر مجددا قلب الطاولة مع تأكيد سعيه لإخراج العراق من أزمة سياسية عميقة يعيشها منذ انتخابات أكتوبر 2021.
فالبلد الغني بالنفط والغارق في أزمة اقتصادية واجتماعية حادة، يتوقف مصيره على توصل الأطراف السياسية إلى اتفاق يسمح في النهاية بتعيين رئيس وزراء جديد ورئيس جديد.
لكن مقتدى الصدر يريد انتخابات جديدة، في حين يطالب خصومه الشيعة في «الإطار التنسيقي» والمؤيدون لإيران بتشكيل حكومة ثم انتخابات تشريعية بشروط.
وهو لا يتردد في فتح جبهات مع الفصائل الشيعية بالدعوة بانتظام إلى حل «الميليشيات» بعد أن دعا إلى التصدي للغزو الأميركي عام 2003 عبر تشكيل جيش المهدي.
احتلال الشارع
يعتمد الصدر على دعم جمهور لا يستهان به من الطائفة الشيعية، أكبر المكونات في العراق.
ويشرح الباحث في مركز «واشنطن إنستيتوت» حمدي مالك أن الصدر «قادر على احتلال الشارع، وليس لأحد القدرة على منافسته في هذا الميدان».
ويضيف أن الصدر «هو الشخصية المحورية» في تياره، حتى لو أنه أحيانا يناقض نفسه ويبدل مواقفه بين يوم وآخر.
وخلال الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019، أرسل الصدر الآلاف من مناصريه إلى الشارع لدعم المتظاهرين المطالبين بتغيير الطبقة السياسية الفاسدة. لكنه سرعان ما دعا مناصريه الى مغادرة الشارع.. ليدعو بعد ذلك إلى «تجديد الثورة الإصلاحية السلمية».
ويشير الخبير في التيارات الشيعية في جامعة «أرهوس» في الدنمارك بن روبن دكروز إلى أن الصدر «يحاول أن يموضع نفسه في مركز النظام السياسي، مع أخذ مسافة منه في الوقت نفسه. موقعه كرجل دين يتيح له أن يوهم بأنه أكبر من السياسة».
وشكلت ملفات مكافحة الفساد وإعمار العراق مواضيع حملته للانتخابات التشريعية الأخيرة، فيما لعب أيضا على الوتر الوطني. ويقدم نفسه على أنه معارض للنظام ومكافح للفساد، علما أن الكثير من المنتمين لتياره يتولون مناصب مهمة في الوزارات.
تسوية
ولد الصدر في العام 1974 في الكوفة قرب مدينة النجف جنوب بغداد. وهو ابن سلالة من رجال الدين الشيعة «السياد» لانحدارهم من نسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما يشرح حمدي مالك، لكنه يردف أن «ذلك، وحده، لا يكفي لتفسير مسيرته».
فالصدر ورث شعبيته الكبيرة من والده محمد صادق الصدر، أبرز رجال الدين الشيعة المعارضين لصدام حسين الذي قتله مع اثنين من أبنائه في العام 1999.
ومنح هذا النسب المرموق دفعا شعبيا لمقتدى الصدر، فكان إحدى أبرز الشخصيات التي لعبت دورا أساسيا في إعادة بناء النظام السياسي بعد عام 2003، وقاد إحدى أكثر الحركات الشيعية نفوذا وشعبية في البلاد.
وبدأت مسيرته بمعارك ضارية مع القوات الأميركية التي اجتاحت العراق في 2003، وصولا إلى نزاع حاد مع رئيس الوزراء نوري المالكي الذي حكم البلاد بين العامين 2006 و2014.
وحل بعد ذلك ميليشيا «جيش المهدي» المؤلفة من 60 ألف مقاتل، لكنه أعاد تفعيلها بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع العام 2020 في ضربة عسكرية أميركية في بغداد.
وتبقى علاقته مع إيران إحدى أكثر المسائل المعقدة. وفي حين تبنى في أعقاب احتجاجات العام 2019 خطا قريبا من «الحشد الشعبي» الموالي لإيران، بات الآن يدافع عن خط «وطني».
ويرى دكروز أن الصدر «يسعى إلى تسوية مع إيران تسمح له بمنافسة حلفائها على الساحة السياسية مع الخروج في الوقت نفسه عن نطاق سطوتهم»، لكن طهران «لا ترى في الصدر شخصا يمكن الاعتماد عليه».
ورغم أن شخصيته تحفل بالتناقضات والتقلبات، يقر الجميع، حتى معارضوه، بأن الصدر لايزال يحتفظ بقاعدة شعبية قوية تستجيب له.