قد نتفق على أن السفر من أفضل الوسائل للترفيه عن النفس، وعلاج للتعب والإرهاق والتوتر، وأنه يبعث السعادة على النفس. هناك أسس ومعايير لاختيار وجهة السفر لقضاء الإجازة الصيفية التي غالبا ما تخضع لمزاج وثقافة الشخص وأحيانا أسرته وكذا مقدار ميزانيته! فتجد ذلك التباين الكبير في اختيار المكان. كثير منا من يعشق الاصطياف في بلاد حارة، وآخرون في بلاد باردة، والبعض الآخر في بلاد استوائية، وهناك من يعشق البلدان التي تمر بفصل الشتاء، مثل نيوزلاندا وأستراليا وجنوب أفريقيا…وهكذا.. نتساءل دائما (ليش عائلة فلان) تحب تصيف كل عام في المدينة الفلانية الحارة التي تفتقد أبسط مقومات السياحة سوى التسوق، وعائلة أخرى اختارت بلد المطاعم والمقاهي دون غيرها! وهنا كأسر لديها حب النوم نهارا والسهر ليلا في المدن والعواصم التي تزخر (بكوكتيل) وناسة.
وفئة أخرى ومنهم كاتب السطور نحتفظ بمزاج مختلف لأن أهدافنا موجهة الى الريف حيث رونق الطبيعة والجبال والأنهار والبحيرات وهدوء المكان وجوهر المناظر الخلابة بجانب القرى المحيطة أو القابعة حولها. عثرنا على ضالتنا التي بحثنا عنها لسنوات، يبهرنا نحن شعوب الصحراء جمال الطبيعة الخلابة في نسيمها العليل مع رذاذ المطر، وتمايل أغصان الشجر، تغرد فوقها أنواع الطيور فرحة، وتسمع تحتها خرير الماء المبتهج، وتنعكس على صفحتها ألوان ساحرة من خضرة الأشجار إلى بياض السحاب المتقطع وزرقة السماء، تنسج خيوطا من شمس حانية، كشمس الربيع.. أو شمس الشتاء في بلداننا، تلك هي الطبيعة وعلاقتها في إثارة البهجة والسرور في النفس، إن روعة المناظر الطبيعية تجعل الإنسان يسبح باسم المبدع العظيم، فاطر السموات والأرض. فلا غرابة أن تمنح مسامعك حق استقبال نغمات غريبة لم يسبق أن سمعت مثيلا لها، نغم أشبه ما يكون بمقطوعة موسيقية نادرة اللحن، متنوعة المصدر، يجبرك فضولك الكشف عن هذا المجهول.
توقفك نغماتها الساحرة تارة وتطلق لك العنان لاستكمال جولاتك وصولاتك تارة أخرى، تنقلك معها الى خيال واسع، فأركان الحسن والجمال اجتمعت، الخضرة والماء والمنظر البديع، وأصوات موسيقى تمردت على كل قوانين الموسيقى، لم تلمسها أنامل بشر، تصدمك المفاجأة مثل ما يصدمك تفوق جمال المكان المتغير بتغير الغيوم والسحب والرياح العابرة، فمصدر هذه الموسيقى يجبرك قسرا الوقوف والتأمل وطرح الأسئلة تلو الأخرى للتعرف على حقيقة هذا الصوت ذي اللحن الموسيقي الجميل، فلا وجود لعازفين هواة، ولا لأدوات موسيقية أو غيرها، ولا جائلين هنا أو هناك.
فتكتشف حينها الحقيقة.. معقولة؟ مصدر صوت الموسيقى يأتي من هناك، من مجموعة أبقار؟ منتشرة على طول وعرض الوديان والجبال، فهي تلهو وتأكل من خشاش الأرض، فما علاقة الصوت بها؟ تقترب أكثر فأكثر، فتدرك حينها صحة اعتقادك، نعم أنه صوت الأجراس المعلقة على رقابها تتدلى وتحدث أصواتا تتخيلها لحنا جميلا، عندما تتحرك الأجراس يمينا ويسارا، وهكذا محدثة تلك الأنغام المختلفة، تشكل بمجملها عزفا جماعيا عفويا أشبه ما يكون بقطعة موسيقية رائعة، فأطلقت عليها مجازا سيمفونية البقر، تمعنت بهذه الأجراس، فوجدتها مثبتة على أطواق مصنوعة من جلد قوي علقت على رقابها، سألت عن السبب؟ فذكر لي القرويون أن وضع هذه الأجراس للتعرف على موقع القطعان وإلى أي جهة استقر بها الرعي، وكذا للاستدلال على المفقود منها والتي تطوي مسافات طويلة بين التلال والسهول والغابات ولا تستطيع العودة، فهذه الأجراس ترشدنا لمكانها قبل أن تكون عرضة للضياع والهلاك!
إنها لوحة رائعة الجمال بالصوت والصورة رسمت من لدن عزيز جبار، فسبحان من خلق وأبدع وقدر، وألهمنا على حسن الظن والاختيار، والدعاء لكل من استخار واختار مكانا يستقر به ناشدا الراحة والاستقرار.