«أرجو إعلامي إذا كنت تعرف طالبا مميزا يحتاج إلى منحة دكتوراه ونحن سنتولى التواصل معه»! مازال هذا الطلب من مسؤول قسم الدكتوراه في جامعة دلاوير يطرق ذاكرتي، وأحاول البحث عن سبب هذا الحفر عن طلاب الدكتوراه في بعض جامعات الولايات المتحدة، وإتاحة المجال لهم للعمل، مع مدهم بكل التسهيلات والتمويل، وحتى الدعم المعنوي والنفسي والمهني، من خلال اللقاءات التي تغطي مواضيع دقيقة، والدورات التدريبية المتخصصة والمتنوعة، وتخصيص استراحات خاصة لهم، كما رأيت ذلك مؤخرا في جامعة برنستون، وكأن لهم حياة أخرى وحالة نفسية خاصة، الأمر الذي ذكرني بما كنت أنا وأقراني نصل إليه من حالة الندم على التسجيل في الدكتوراه والقلق من نهايتها، والذي تعكسه بعض التعابير المجازية الإنجليزية عن ألم مرحلة الدكتوراه.
وأعود أدراجا إلى لقاء، قبل أيام، جمعني بعدد من طلبة الدكتوراه من بين أكثر من 2500 طالب في جامعة برنستون، ينتمون إلى دول عدة وتخصصات متنوعة، حيث كان بينهم من يدرس الكيمياء والهندسة الإلكترونية والدراسات الشرق أوسطية والتاريخ والدراسات الإسلامية، وجاء الحديث عن سبب قبولهم في الجامعة واهتمامها بجذبهم وإنفاق مبالغ كبيرة عليهم، حيث تقدم الجامعة منحا لمعظم طلبة الدكتوراه وبدعم مالي قد يصل لعدة الألف دولار أميركي شهريا، وهم ربما لن يجدوا عملا بعد الانتهاء من الدكتوراه، كما قال أحدهم وهو يضحك، ولذا اقترحنا عليه إطالة الدراسة والاستمتاع بمنحته!
وكعادتي منذ أن وصلت جامعة برنستون وأنا أبحث عن إجابة للعديد من الاستفسارات، قال أحدهم ان برنستون جامعة عريقة عالميا، وتسعى أن يكون خريجوها من الطلبة المتميزين، ولذلك فإنها تحرص على استقطاب طلبة الدكتوراه، وإدماجهم في منظومة البحث العلمي، حيث يمكن لهم المشاركة في بحوث قد ينشر في بعضها في مجلات محكمة.
وقال آخر ان برنستون لديها أوقاف بقيمة أربعين مليار دولار أميركي!، وهي تريد إنفاق ما تخرجه هذه الكنوز من إيرادات، من خلال منح طلاب الدراسات العليا، فضلا عن الدعم المالي الذي تمنحه في المرحلة الجامعية الأولى - البكالوريوس والذي وصل إلى 63% من الطلبة.
كذلك، يحتاج بعض الأساتذة لمتخصصين في حقل دراستهم لمساعدتهم في التعليم والبحوث والاكتشاف والابتكار، وهم بذلك يقدمون الدعم والمساندة العلمية والأدبية لبعضهم البعض! ولذلك ليس من المستغرب لطالب دكتوراه أن يتجاوز تعقيدات القبول إن تبناه أستاذ كبير من نفس التخصص لتصرف عليه الجامعة مئات الألوف من الدولارات!
وافترض أحد الطلاب لو أن جامعة برنستون، وخلال 10 سنة، قد قدمت منحا لألف من طلبة الدكتوراه، ثم أعاد عشرهم قيمة المنح التي تلقوها في صورة تبرعات للجامعة، فإن الأخيرة ستستفيد على المدى البعيد ماديا ومعنويا، حيث ستغطى المنح من تبرعات أشخاص باتوا حملة للدكتوراه، من ذوي المركز الاجتماعي والمكانة العلمية المرموقين والدخل المرتفع.
إضافة الى ذلك، أشار طالب آخر الى أن الأبحاث العلمية تعود أحيانا بمردود مالي على أصحابها.
والى جانب هذه الأسباب التي وردت في النقاش، يضاف أن مرحلة الدكتوراه تتطلب قدرا كبيرا من وقت الفرد واهتمامه وتركيزه، وهو ما لا يمكن للمرء تقديمه إذا كان عليه القلق بشأن الطعام والمأوى، أو مضطرا لاستكمال احتياجاته بالعمل في وظيفة ما، لذا تدفع الجامعات بسخاء لهؤلاء الطلبة حتى يتسنى لهم التركيز في عملهم.
كذلك، فإن الجامعات، على وجه العموم، في حالة من التنافس مع السوق غير الأكاديمي في استقطاب الكفاءات، وقد يضطر المرء في سبيل الحصول على درجة الدكتوراه إلى التخلي عن وظيفة براتب كبير، لذا فإن تقديم الدعم المالي السخي قد يشجع البعض على ترك السوق والتوجه إلى الوسط الأكاديمي.
كما ينبغي ألا يغفل المرء أن برنستون بطبيعتها جامعة بحثية، وهي تحتل تصنيفا عاليا في ذلك بين العشرة الكبار من الجامعات الأميركية والعالمية، ولم يكن لها أن تصل إلى هذه المكانة لولا حرصها على استقطاب الباحثين وتوفير الظروف الملائمة لهم، وترى الجامعة علاقة مباشرة بين الدعم المالي القوي وفتح آفاق أكاديمية جديدة، ولذا تحرص على توفير التمويل لطلبة الدكتوراه قناعة بأنه استثمار في الطلبة، وعنصر أساسي في توفير بيئة أكاديمية فريدة يزدهر فيها التفكير الإبداعي.
ويأتي هذا الهوس الإيجابي، إن صح التعبير، بجذب المميزين والإغداق عليهم، ضمن منظومة متكاملة في الدول المتقدمة في كل المجالات، سبق وأن تكلمت عنها في مقال «ماذا لو لم يذهب محمد صلاح إلى ليفربول؟»، لاستقطاب الكفاءات والمواهب، إدراكا لعلاقتها الوثيقة بتنمية الدولة ونهضتها، فعملت تلك الدول على توفير الحوافز والظروف الملائمة، لاستيعاب المبدعين، مما انعكس لاحقا في نمو وتضاعف قوتها العلمية والاقتصادية والعسكرية وصنعت ولاء عجيبا لدى هؤلاء بعد أن طردوا من بلدانهم باختيارهم!
[email protected]