«المعركة الفاصلة»، هكذا كانت تسمى المواجهة العسكرية في خيرسون بين القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية، لكن استعادة الأخيرة للمدينة لا تعني بالضرورة قرب انتهاء الحرب وبداية انسحاب الروس من كامل الأراضي التي ضموها إليهم بعد استفتاءات شعبية لم تعترف بها معظم دول العالم.
إلا أن دخول الجيش الأوكراني مدينة خيرسون بعد الانسحاب المنظم للقوات الروسية منها، يعتبر نصرا استراتيجيا لا يمكن التقليل منه، رغم أن إمكانية عودة الروس للسيطرة على المدينة مجددا ليست مستبعدة.
فخيرسون هي أول وآخر عاصمة مقاطعة تسيطر عليها القوات الروسية مع بداية الحرب في فبراير الماضي.
وأهميتها الاستراتيجية تكمن في أنها البوابة الشمالية لشبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا إليها في 2014، وبالسيطرة عليها وعلى أجزاء من مقاطعة زاباروجيا (دون مركز المقاطعة) أصبحت شبه جزيرة القرم متصلة برا بمقاطعتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، اللتين انضمتا مؤخرا إلى روسيا أيضا.
لكن الأكثر أهمية من ذلك، أن خيرسون تمثل منبع المياه العذبة لشبه جزيرة القرم، التي تفتقد لمياه جوفية كافية صالحة للشرب.
فمن خيرسون كانت شبه جزيرة القرم تتزود بالمياه والكهرباء، لذلك حرصت القوات الروسية على السيطرة على منبع المياه في هذه المدينة منذ بداية عمليتها العسكرية.
ومنبع مياه شبه جزيرة القرم يتمثل في «سد نوفا كاخوفكا»، على نهر دنيبرو، ومنه تم شق قناة صغيرة تعبر منها مياه السد نحو شبه جزيرة القرم، ومن يسيطر على السد يتحكم في حنفية المياه نحو الأخيرة.
تفوق عددي ونوعي
بعدما حقق الجيش الأوكراني انتصارات مهمة في جبهة خاركيف (شرق) وحرر أغلب مدنها وبلداتها، رمى بثقله على جبهة خيرسون في الجنوب، مستفيدا من تفوقه العددي، وحتى في نوعية السلاح الذي زودته به الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون.
وقبل شهرين، تقدم الجيش الأوكراني نحو خيرسون من ثلاث جبهات شرقية وشمالية وغربية، وكانت صواريخ «هيمارس»، التي يتجاوز مداها 60 كلم، كلمة السر في النصر الذي تم تحقيقه في الأيام الأولى من المعركة.
ونقطة الضعف الجوهرية لدى القوات الروسية المتمركزة في خيرسون كان سد نوفا كاخوفكا، فلو نجح الجيش الأوكراني في تدميره، فإن ذلك سيؤدي إلى إغراق المدينة، ومعسكرات الجنود على ضفتي النهر.
لكن الأخطر من ذلك، أن انهيار السد سيعزل القوات الروسية في شمال نهر دنيبرو، ويجعلها مطوقة من القوات الأوكرانية شرقا وغربا وشمالا، ومن النهر جنوبا، ما سيؤدي إلى قطع الإمدادات عنها ووقوع آلاف الجنود الروس إما أسرى أو قتلى أو جرحى.
وشرع الجيش الأوكراني فعلا في قصف سد «نوفا كاخوفكا» بصواريخ الهيمارس، في الأيام الأولى من الشهر الجاري، بحسب السلطات المحلية الموالية لموسكو، التي تحدثت عن أضرار أصابت أجزاء من السد، رغم أن الجانب الأوكراني نفى ذلك، بل وحذر من أن القوات الروسية قد تلجأ إلى تفجيره.
كما أن استهداف الجيش الأوكراني لخطوط إمداد القوات الروسية في شمال خيرسون بصواريخ هيمارس أضعف القدرات الدفاعية لها.
وظهرت ڤيديوهات، لم يتسن التأكد منها، لجنود روس في الجبهات يشتكون من نقص المؤن والذخائر.
فالجيش الروسي خسر نحو 100 ألف جندي بين قتيل وجريح، خلال أقل من 9 أشهر من القتال في أوكرانيا، وفق رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي.
وهذه الخسائر البشرية تفوق عدد ما خسره الجيش السوڤييتي خلال عشر سنوات من الحرب في أفغانستان (1979-1989)، والتي تجاوزت 15 ألف قتيل، بحسب مصادر إعلامية.
الوضع كان صعبا للقوات الروسية شمال نهر دنيبرو، ورغم تمكنها من إبطاء تقدم القوات الأوكرانية في الأيام الأخيرة، بعد تكثيفها من استخدام الدرونات الإيرانية الانتحارية، إلا أن قادتها كانوا أمام خيارات مؤلمة.
فإما القتال في مناطق مفتوحة في ظروف قاسية، ومواجهة احتمال فقدان 30 ألف مقاتل و5 آلاف آلية على الضفة الشمالية لنهر دنيبرو، إذا تم تدمير سد نوفا كاخوفكا، وقطع خطوط الإمداد.
وإما سحب القوات خلف نهر دنيبرو، المعروف بعمقه وغزارة مياهه خاصة في الشتاء، وإعادة تنظيم القوات وخطوط الإمداد، وانتظار وصول التعزيزات خاصة بعد تجنيد 300 ألف من قوات الاحتياط.
كان الخيار المر هو الانسحاب، لكن الأمر منه فقدان آلاف الجنود في معركة خاسرة، لذلك تم إخلاء خيرسون من المدنيين، ثم انسحبت القوات الروسية تدريجيا، مع استمرارها في القتال على خطوط المواجهة لتفادي وقوع خسائر هائلة أثناء الانسحاب الكبير.
حرب شتاء طويل
بعد أن أكملت انسحابها، دمرت القوات الروسية جسر أنتوني فيسكي على نهر دنيبرو، وجزءا من جسر سد موفا كاخوفكا، لمنع القوات الأوكرانية من مطاردتها إلى الضفة الجنوبية من النهر.
ويوضح ذلك أن القوات الروسية ستتخذ وضعية دفاعية، ولن تسعى لاستعادة خيرسون في الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة.
وتحاول القوات الروسية البحث عن موانع طبيعية للاحتماء بها، واتخاذ تحصينات دفاعية قوية لإعادة تجميع صفوفها، وانتظار وصول التعزيزات، ومعالجة أخطائها وبالأخص خطوط الإمداد التي مازالت نقطة الضعف الجوهرية التي تعانيها.
ما يعني تجميد جبهة خيرسون، خلال المرحلة المقبلة، وفتح جبهات أخرى في مقاطعة زاباروجيا المقسمة بين الطرفين، وأيضا جبهتي لوغانسك ودونيتسك، هذه الأخيرة التي تشهد معارك عنيفة بمحيط مدينة باخموت والبلدات القريبة منها.
فروسيا تستعد لحرب طويلة النفس، على غرار تلك التي خاضها الاتحاد السوفييتي ضد فنلندا في 1939، ورغم هزيمته في الجولة الأولى للحرب بسبب الشتاء والثلوج، إلا أنه كسب في النهاية بعد ضمه أجزاء واسعة من الأراضي الفنلندية، التي مازالت إلى اليوم تابعة لروسيا.
وتراهن موسكو على الشتاء المقبل، حيث بدأت درجات الحرارة تقل إلى ما دون الصفر ليلا في بعض المدن الأوكرانية، والشعوب الأوروبية تواصل خروجها للشوارع للاحتجاج ضد الغلاء وارتفاع فواتير الغاز والكهرباء.
والانقسام بدأ يدب بين القادة الأوروبيين حول حجم الدعم ونوعيته الذي يجب تقديمه لأوكرانيا، رغم اقتراح المفوضية الأوروبية دعم كييڤ بـ 18 مليار يورو تتضمن قروضا دون فوائد.
بينما تضغط واشنطن على كييڤ لبدء الحوار مع موسكو، خاصة مع سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب، وهم أقل حماسة لدعم أوكرانيا.
ولا ترغب القيادة الأوكرانية في منح الروس فرصة لالتقاط أنفاسهم بعد هزيمتهم في خيرسون، بل تطلب منهم شروطا تعجيزية كالانسحاب الكامل والتعويض قبل بدء الحوار.
ويعتبر الشتاء والثلوج سلاحا ذا حدين ضد روسيا وأوكرانيا، ومن شأن ذلك إبطاء العمليات العسكرية من الجانبين، لكنه سيخدم الطرف المدافع أكثر من المهاجم، ورأينا كيف غرزت دبابات وآليات روسية في الأوحال وتعطل بعضها في الشتاء الماضي، ما عرقل تقدمها.
لكن خسارة روسيا في حرب تقليدية قد يدفعها إلى استخدام آخر ورقة لديها، والمتمثلة في السلاح النووي، لكنها إن أقدمت على هذه الخطوة فستتسبب في عزلتها دوليا حتى من أقرب حلفائها الكبار.