نلاحظ في الآونة الأخيرة تشبث بعض الأشخاص بظاهرة غريبة نوعا ما أصبحت تسود بيئتنا الاجتماعية والتي يحدث فيها الكثير من الإثارة والجدل والتفاعل لمن يعيش في ظلها من أفراد، ألا وهي ظاهرة الفكر الاستعلائي، ذلك الفكر ذو الاتجاه الواحد والرأي الواحد مع ادعائه بحرية الرأي للجميع! لكن ماهو إلا ادعاء كاذب، فهي حرية من نوع خاص مصطنعة ومختلقة.
كما تعتبر هذه الظاهرة من أخطر الظواهر على الإطلاق، كونها تمتاز بخصائص وأساليب متعددة من أهمها أنها تستخدم مصطلحات رنانة وغريبة، تسحر العقول وتسبي الألباب، كـ(الحرية، النور، الظلام، القتام....إلخ) مثلما سحرت عقول البعض من الناس ووقع الكثير في فخها للأسف، مع أن الإسلام حذرنا من الوقوع في مثل هذا السحر البياني واللغوي فقال صلى الله عليه وسلم «إن من البيان لسحرا»، كما أن هذه الظاهرة تسمح بالحريات وتنادي بها وتجهر بذلك بمقدار ما تخدم هذا الفكر الاستعلائي وغيره، لكن في الواقع هي لا ترضى إلا حرية من طرف واحد، ولابد لكل الحريات بأن تدور في فلكها، فإن خرجت هذه الحرية المسموح بها عن الدوران في هذا الفلك تجد هذه الظاهرة سرعان ما تستعلي وتكيل الاتهامات وتبدأ بخلط الحابل بالنابل وتظن نفسها أنها هي الوحيدة التي تملك الحق فتتصدق به على الناس، وما سواها شارد عن الحقيقة جاهل بها، فبالتالي هي التي تأمر وتنهى وتتصدق على الناس بالحقيقة وتقرع رؤوسهم بالاتهامات المختلفة، كما أنها تتودد أيضا في المقابل بأساليب مختلفة لتأخذ الولاء لها وتزيد عدد الأجرام في أفلاكها.
ومن أخطر مظاهر هذه الظاهرة هي التأويل السافر للقرآن والسنة للإسلام، ذلك التأويل الذي يخرج القرآن والسنة عن المقاصد العامة للإسلام، كما تكلم القرآن عن هذه الظاهرة وأطنب فيها وذلك في مواضع عديدة ومن هذه المواضع فرعون مصر الذي جاءه الحق فأعرض عنه فانطلقت هذه الظاهرة لتعبر عن وجودها على لسان فرعون بقوله:
(ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). أما بما يخص أساليبها فهي كما ذكرنا متعددة ومختلفة، ومنها استخدام الألفاظ والمصطلحات البراقة، مثلما استخدم فرعون كلمة الرشاد مع أنه أبعد الناس عنها، وفي موضع آخر يظهر الشفقة على قومه ويحشد أكبر عدد منهم ليدوروا في فلكه، «وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد»، فهو يحشد قومه ويستخدم كلمة الفساد وينسبها إلى موسى ويظهر بذلك الشفقة على قومه!
وقارون وهامان وغيرهما من أصحاب الفكر الاستعلائي البغيض.
بينما القرآن الكريم يوجهنا إلى عدم الاستعلاء وقبول الآخر ومحاورته والنقاش معه بهدوء للوصول إلى الهدف الأسمى والأنقى «وجادلهم بالتي هي أحسن»، حتى إن الله أوصل المحاور المسلم إلى مرتبة يضع الإسلام والشرك بمرتبة واحدة للوصول إلى الهدف عندما قال «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين»، بل إن الله ألزمنا بذلك وجعل الحوار والدليل هو الحكم والفصل بين الناس «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين».
فهذا هو الحوار الذي طالبنا به الإسلام وهذه هي صفات الحوار، وهذه هي صفات الفكر الإسلامي، فكر معتدل متزن، رزين، مستقيم، يسمع ويقبل ويحاور.