لحياة الهادئة الهانئة التي تنعم بالسلام، لا تصلح بغير توسط الأمور فيها، فالوسطية حق وعدل وخير ومطلب شرعي أصيل ومقصد أسمى ومظهر حضاري رفيع، فهي أفضل الأمور وأنفعها للناس، كما أنها الاعتدال في كل أمور الحياة ومنهجها، وكما جاء في الحديث «خير الأمور أوسطها»، فالوسطية اتزان، الوسطية أي لا إفراط ولا تفريط، وكما يقال: واسطة القلادة الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها.
كما تعتبر الوسطية من أهم مزايا المنهج الإسلامي التي ينبغي التعامل بها، ولعلنا نحن اليوم أحوج إليها من أي وقت آخر، فهي اللغة بين طرفي الشيء، وبلا شك أن دين الإسلام دين توسط واعتدال، كما قال الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، فالوسطية اختيار من الله لهذه الأمة وهي تكريم منه سبحانه لتحقيق الأمن والسلام، ولزرع الثقة والطمأنينة والتناغم والانسجام بين الأفراد.
فالإسلام ليس دينا مجردا روحيا، ولا جامدا جسديا، بل إنساني وسط بين ذلك، يأخذ من كل بنصيب، فتوافرت له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره، ونلمس معاني الوسطية في مواضع لا تكاد تحصى من سيرته صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما»، وقد روى أنس رضي الله عنه: «أنه جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
كما أن الوسطية مطلوبة في الاعتقاد والسلوك والمعاملة والأخلاق أيضا، وهذا يعني أن الإسلام بالذات دين غير جانح ولا مفرط، فالخطاب الإلهي جاء ثابتا في منطوقه، متحركا في دلالته، فمن تأمل المنهج الذي جاء به القرآن الكريم وتتبع أحكام الشريعة وما دعا إليه الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل مجالات الحياة، يجد أن الاعتدال والوسطية واضحة فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتمثل الوسطية والاعتدال في شخصيته وسماته وأفعاله فكان حليما، لكن الحلم الذي لا يصل إلى الضعف، فإن تطلب الأمر قوة وشجاعة كان كذلك، وكان كريما سخيا، لكن الكرم والسخاء لا يقوده إلى التبذير والإسراف، وكان حييا شديد الحياء، لكن الحياء لا يمنعه من الجرأة في تعليم الناس أمور دينهم.
وهكذا سائر الخصائص والسمات، وأخبر محمد صلى الله عليه وسلم أن الله بعثه بدين وسط، دين تتجلى فيه السماحة والاعتدال في كل أمور الحياة، كما ورد في القرآن الكريم (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، حيث تدل الآية الكريمة على أهمية الوسطية وتحقيق التوازن في الحياة من أجل أن ينعم الإنسان - كما أشرت سابقا - بالسلام ويعيش في تناغم وانسجام مع كل البشر الذين يشاركونه الحياة على كوكب الأرض.