وبعد جفاء كتابيّ أصابني وطال لأعوام، جفت فيه دماء قلمي وتاهت فيه روحي عن الجسد والكيان، فقدت فيه شعوري بالزمان والمكان، بدوت كأنني لم أحسب يوما على عالم الأحياء، في تلك السنوات العجاف، فقدت فيها أغلى ما أملك في تلك الحياة، وتوالى الفقدان شخصا تلو الآخر، وقيمة تلو الأخرى، نزيف لم يتوقف من الفقدان والألم وطول الانتظار، طال فيه عذاب الروح وفقدان الأهلية، بدوت كأنني قد وضعت في سجن دون سجان، في مكان مظلم بعيد في باطن نفسي، لا أرى فيه غير الظلام، طعامي علقم شديد المرارة وشرابي الدموع الحارة المنهمرة دون توقف، رأيت نفسي عارية مجردة من قناع القوة التي تتوارى خلفه لتخفي ضعفها وهوانها، نسيتها أنا أيضا وهانت علي، كما هانت على الكثيرين ممن هم حولي، وتوقف عقلي عن العمل بعد أن سلم نفسه لقلبي الذي أودى به إلى عالم النسيان.
لم أتذكر نفسي حتى سمعت صراخها المدوي الذي من قوته استفقت من غيبوبتي التي استغرقت سنوات! فرأيت شعاع نور بدا لي كالنجم المضيء في ليلي المعتم الحالك، فتمسكت به عسى أن ينير لي ظلامي فيأخذ بيدي خارج قضبان نفسي، وبالفعل نجحت بسهولة مطلقة في تحطيم أغلال الحزن التي كبلت نفسي بها طوال سنوات، توقفت لحظة شعرت فيها بقبضة في صدري، لكني لم أعرها أدنى اهتمام.
وأنى لي أن أتخلى عن تلك السعادة التي اجتاحتني حينما تحررت من الوحدة والأحزان، وسرعان ما انطلقت كفرسة جامحة فقدت زمام نفسها حتى كادت أن تطير وتعلو في الأفق البعيد تاركة عقلي في جب الأحزان، لم يتمهل قلبي حتى تعود إليه الدماء فأخذ يلهث حتى كاد أن يتوقف فيفارق الحياة، جل ما أبقاني على قيد الحياة، يقيني في رب لطيف، وأمل من أجله صارعت الأحزان، وسرعان ما انهمرت علي خيبة الأمل ومرضى القلوب والعقول، عقدوا صفقتهم الخاسرة مع الشيطان، أملا منهم في الفوز بقليل من فتات الدنيا علها تسد شيئا من دنو أنفسهم أو ترمم لهم وجها شوهه الطمع والكذب وسوء الظن والافتراء، صارعت وجاهدت وصمدت حتى فقدت قوتي وسقطت فريسة الاستسلام، لكن لم أسمح للأمل أن يتركني، ولا الشيطان أن يدركني، أو يهتز يقيني بخالقي، حتى إنني عجبت من نفسي!
من أين لي بتلك القوة، وهذا التماسك والاحتساب؟ كنت كلما أمسك بقلمي وأحاول أن أنقل له قطرات من دمي وأعطيه قبلة الحياة كان يسقط من يدي ويذهب بعيدا عني، حاولت ثم حاولت لعلمي أنه هو من يملك القدرة على إخراجي من حزني ويرد لي روحي، وهأنذا أنهض من سبات بمعجزة بحول الله وقوته أعادتني إلى الحياة، أتساءل: إلى أي حد سوف أتماسك وإلى متى أجاهد وحدي في جميع الاتجاهات وهل سأنجح؟ وإن حدث هل سأستمر؟!، وهل سأحظى بتحقيق حلم معلقة ولادته في رحم المعجزات؟!