لا شك أن الجنون فنون لتنوع أشكاله وتفاوت درجاته، وهي صور حية نراها في مجتمعنا، إلا أن المجانين كانوا أكثر في الماضي، فهم ظاهرون للعيان، أما اليوم فتكاد لا تعرفهم إلا بعد تأمل، يقول صاحب كتاب عقلاء المجانين ابن حبيب النيسابوري أن أصل الجنون في اللغة الاستتار، لذا سميت الجن جنا لاجتنانهم عن أعين البشر بحسب رواية العتبي، فالمجنون المستور العقل، وللمجنون في اللغة أسماء عدة ومنها الأحمق وهم كثر في هذا الزمان، والمعتوه وهو الذي يولد مجنونا، والأخرق الذي لا يحسن التدبير ولا التقدير، فتجده يسبك وهو لا يعرفك ولم يرك في حياته، وإنما رأى من يسبك فسبك معه، والمائق والرقيع والمرقعان وهو أخو الأحمق لأم وأب، والممسوس الذي يتخبطه الجن أو الشيطان، والمخبل فيقال رجل مخبول وهم اليوم أضعاف العقلاء، والأنوك والمهووس، وهو ضرب من الجنون والجذب والأهوج وعدوا العشق ضربا من ضروب الجنون، على نحو قول مجنون ليلى:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
ما لذة العيش إلا للمجانين
أو كقول طرفة بن العبد:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر
ومن الحب جنون مستعر
وغير ذلك الكثير من فنون الجنون إن جاز التعبير، وهناك أيضا من يتجان ويتحامق، وهو صحيح العقل من اجل مصلحة له، مثل أن ينال غنى أو ليطيب عيشا أو لينجو من بلاء وآفة، حتى أن قاضي القضاة أبا يوسف قال: الناس ثلاثة: مجنون أنت منه في راحة، ونصف مجنون فأنت منه في تعب، وأما العاقل فقد كفيت مؤنته. ومن بين من ذكرت لكم عقلاء المجانين وهم أعجوبة، فقد ذكر محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أنه رأى بهلولا المجنون في بعض المقابر وقد دلى رجله في قبر وهو يلعب بالتراب، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟ فقال: أجالس أقواما لا يؤذونني، وإن غبت عنهم لا يغتابونني، فقلت له: قد غلا السعر! فهلا دعوت الله فيكشف عن الناس ما هم فيه؟ فقال: والله لا أبالي ولو حبة بدينار، إن الله قد أخذ علينا أن نعبده كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا، ثم صفق بيديه وأنشأ يقول:
يا من تمتع بالدنيا وزينتها
ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما لست تدركه
تقول لله ماذا حين تلقاه؟
وخرج هارون الرشيد للحج ففرش له من جون العراق إلى مكة لبد مرعزي وكان حلف أن يحج ماشيا، فاستند يوما إلى ميل من التعب، فإذا سعدون المجنون قد عارضه وهو يقول:
هب الدنيا تواتيكا أليس الموت ياتيكا
وما تصنع بالدنيا وظل الميل يكفيكا
الا يا طالب الدنيا دع الدنيا لشانيكا
فما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا
فشهق الرشيد شهقة وخر مغشيا عليه، ثم أفاق بعد أن فاتته ثلاث صلوات، روى ذلك النيسابوري، ودمتم سالمين.