سورة الذاريات سورة مكية، وكما أسلفنا، القرآن المكي مداره التوحيد وإثبات الرسالة وإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثبات البعث والجزاء، فغالبا ما تكون آيات السور المكية قصيرة متتابعة تقع على القلوب كأنها مطارق تطرقها حتى تعيد إليها الوعي فتعود إلى ربها بتوحيده، وهكذا بدأ الله عز وجل سورة الذاريات بأقسام عظيمة، وللعظيم أن يقسم بما يريد وليس لخلقه إلا أن يقسموا بالعظيم.
دلائل قدرته عز وجل
عندما يقسم الله سبحانه بآلائه إنما يلفت إلينا النظر الى العناية بهذه المقسمات التي أقسم الله بها، فما أقسم الله بها إلا ليذكرنا بعظمتها ونستخلص منها دلائل قدرته وعظيم صنعه، قال تعالى (والذاريات ذروا)، أقسم الله تعالى بالرياح المثيرات للتراب، فالرياح تذرو التراب وتحمل أيضا البخار الى السماء العالية وتحمل أمورا كثيرة، فمن مهمات الرياح ومن صفاتها أنها ذارية تذرو التراب ونحوها، (فالحاملات وقرا): السحب الحاملات ثقلا عظيما من الماء، (فالجاريات يسرا): السفن التي تجري في البحر جريا بيسر وسهولة، (فالمقسمات أمرا): فالملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه، أقسم الله بهذه الأمور الأربعة العظيمة، فأين جواب القسم؟
الحقيقة
(إنما توعدون لصادق)، جواب القسم، أقسم الله تعالى على الحقيقة أن الذي توعدون به أيها الناس من البعث والحساب حق ويقين وأمر صدق لا كذب فيه، (وإن الدين لواقع) وأن الحساب والثواب على الأعمال لكائن لا محالة.
آيات الله
مازال الله عز وجل يلفت نظر الإنسان الى آياته الكونية العظيمة، فقال (والسماء ذات الحبك) أقسم الله تعالى بالسماء ذات الخلق الحسن، خلق السماء محبوكة بحبك يعني خلق عظيم حسن جميل زينها الله عز وجل بهذه النجوم والكواكب السيارة.
صفات المكذبين
ولما أقسم الله بهذه السماء العظيمة التي لا يرى الإنسان إلا بدايتها، قال (إنكم لفي قول مختلف)، إنكم أيها المكذبون في قول مضطرب، وقد مر بنا دوما أن أهل الحق قولهم ثابت، لسانهم بين، لا يختلفون فيه، ولكن أهل الباطل مرتبكون مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء، تختلف حججهم لهم في كل حين.
الكذابون
(يؤفك عنه من أفك)، اي يصرف عنه هذا الحق من لا يريد الحق من أعرض عنه ولم يوفق الى الخير، فإن الانسان يجب أن يحمد الله على توفيقه للخير، فإن ذلك ليس بكسبه وإنما بمنة الله عز وجل عليه، يقول الله عز وجل هؤلاء الذين انصرفوا عن القرآن وعن الرسول لا خير فيهم ولم يوفقوا إلى خير، وصفهم الله بأنهم خراصون أي كاذبون ولعنهم الله، فهم الذين في لجة من الكفر والضلالة، غافلون متمادون، لاهون.
جزاؤهم
(يسألون أيان يوم الدين)، سؤال التهكم والانكار والاستهزاء، أين هذا اليوم الذي تقولونه؟ الله عز وجل يجيبهم (يوم هم على النار يفتنون)، أي يحرقون بالنار، وهذا الاستهزاء الذي استهزأوا به في الدنيا يُستهزأ بهم في الآخرة، فالجزاء من جنس العمل، (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون)، يضاف الى عذابهم الجسدي عذاب نفسي يستهزئ بهم، فيقول لهم ذوقوا، والذوق لا يكون إلا لكل جميل، ولكن يقال لهم استهزاء ذوقوا هذا الحريق الذي انتم فيه الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا.