بقلم: طارق محمد الفريح
«رحلة عقل» للدكتور عمرو شريف، هو كتاب يسلط فيه الضوء على رحلة حياة الفيلسوف البريطاني الشهير «أنتوني فلو» من الإلحاد إلى الإيمان بوجود إله، وهو يعتبر من الكتب البحثية العلمية الفلسفية العظيمة، شخصيا أنصح كل باحث عن الحقيقة ومحب للتفكير والفلسفة باقتنائه، وقد أحببت أن أقدم لكم جزئية بسيطة من هذا الكتاب، لعلها تحفز الناس على القراءة والإبحار في محيط العلوم العقلية والمنطقية، وهي تتحدث بفلسفة البحث في مصدر الظواهر غير المادية، لكنها بالتأكيد مجرد خطوط عريضة، فالتفصيل فيها لا يمكن أن تكفيه الصفحة بأكملها، ولنقرأ الآن هذه الجزئية التي تنطلق بتساؤل فلسفي: ما مصدر الظواهر غير المادية الخمس (المنطقية ـ الحياة ـ الوعي ـ التفكير ـ إدراك الذات)؟
إذا كانت الظواهر الفيزيائية المركبة «مثل الزلازل» يمكن أن تنشأ عن ظواهر فيزيائية بسيطة مثل «تركيب القشرة الأرضية من صفائح ـ ارتفاع الضغط في قلب كوكب الأرض ـ تجارب التفجيرات النووية تحت سطح الأرض... إلخ»، فإن هذه الظواهر الخمس تختلف تماما عن الظواهر الفيزيائية المركبة والبسيطة، وإذا كان الماديون التطوريون يشرحون لنا كيف أصبحت السمكة ضفدعة، وكيف اكتسبت الديناصورات الصغيرة ريش الطيران، فإنهم لا يملكون لنشأة هذه الظواهر الخمس شرحا ولا تفسيرا، إنها ظواهر غير مادية، ومن ثم فإن التفسير الذي يمكن أن يجمع هذه الظواهر هو أنها استمدت وجودها من وجود أعلى، وجود غير مادي يتمتع بنفس الصفات، خالق حي مدرك مفكر منطقي، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه.
تظل جوانب أخرى من القضية مطروحة أمام الفلاسفة والعلماء منها: هل الحياة والعقل والذات موجودات غير مادية متحيزة في الجسد؟ أم انها توجد خارجه ولها اتصال به؟ من أجل أن نوضح هذا التساؤل، فلننظر إلى طاقة الشمس، فالحياة في كوكبنا مستمدة من الشمس، لكن الشمس ليست متحيزة في كوكب الأرض، إنها بعيدة، وفي الوقت نفسه تمدنا بالطاقة اللازمة للحياة والوجود، فهل الحياة والعقل والذات موجودة خارج أجسادنا وأمخاخنا وتمدنا عن بعد كما يحدث في البث التلفزيوني؟ فالممثلون والمذيعون والموسيقيون موجودون هناك بعيدا، وتبث الموجات في الهواء لتستقبلها أجهزة الاستقبال، وتنقلها إلى عيوننا وآذاننا وعقولنا، وإذا كان عطب جزء من المخ قد يصحبه عجز عن التفكير، فليس معنى ذلك أن التفكير يمارس في المخ، تماما كما ينقطع البرنامج إذا تعطل صمام أو «ترانزستور» في جهاز التلفزيون، بينما يظل البث مستمرا، وتظل الموجات الكهرومغناطيسية المحملة بالبرامج تملأ الهواء من حولنا.
إن الظواهر غير المادية التي ذكرناها لا يمكن دراستها بالمنهج المادي الاختزالي، الذي يحلل كل شيء حتى يصل به إلى مستوى مجالات من الطاقة، فعند هذا الحد تكون ظاهرة الحياة وما يتبعها من وعي وتفكير وإدراك الذات قد اختفت أصلا، إن المنهج المادي يؤدي دورا شديد الأهمية على مسرح الحياة، لكن لا ينبغي أن نستخدمه في غير مجاله، ونستطيع أن نقول بيقين: إنه قد آن الأوان للعلم الحديث أن يستنجد بالسماء ليستكمل مشوار الفهم لما يحدث داخلنا ومن حولنا.
[email protected]
tareq_al_freah@