طارق الفريح
في العتمة، يمر خيط النور ملامسا شعيرات رأسه البيضاء المتبقية، فهو يتسلل خلسة من ثقب في النافذة، ذلك الثقب الذي تسببت به ابنته قبل سنوات طويلة، لقد باتت الآن أما، وزوجة لرجل رأسمالي يتنقل من بلد إلى آخر، جلس على كرسيه الأثري أمام طاولته العتيقة، بأنفاس حارة تلاها سعال يكاد لا يتوقف، في تلك الغرفة الخالية من أي ملامح تدل على الحياة، وتنبع منها رائحة الموت، يتلمس أغلفة كتبه المبعثرة قاصدا مداعبتها، فهو أصيل بأداء الواجب تجاهها، حيث اعتاد على تأديته صباح كل يوم، على الأقل هذا هو ظاهر الأمر، لكن باطنه شيء آخر، فهو يحتاجها بشدة بعد أن أنكرته رغما عنها، على أسطحها شبكة طرقات خطتها أنامله القاسية، فقد أصبح الغبار بالنسبة له حبرا، والظلام ملهما، وحفيف تلك الأشجار في الخارج أنيسا، يحاول أن يقمع شعوره بالذنب لما اقترفه بحقها، ففي السابق كان يقبل عليها بكل فضول، وينتهك خصوصيتها بكل تطفل، ويخدش حياءها بلا استحياء، ويركنها في رف المهملات بعد انتهائه، كما الملك الذي يستمتع بجواريه، بإذلالهن حتى الإشباع، بالتباهي بهن أمام الجميع، ولكن الآن وبعد أن خارت قواه، وتصلب وجهه مشكلا تلك التضاريس التي توحي باقتراب النهاية، أصبح لا مفر من العدل الذي طاله بعد ما انقلب الحال.
«ما أبشعك! ما أتعسك! لم تبعتني؟» صوت انتهك فجأة ستار الصمت، تسارعت دقات قلبه المنهك، قال العجوز «من هنا، من أنت؟»، فرد عليه الغريب وقال «أنا الذي قدسني العالم بعد مماتي وأنت أحدهم، كتبي تملأ مكتبتك، بينما كنت مهملا من قبل أجدادك أثناء حياتي، لقد تركت لكم وصيتي بأن تضيعوني وتجدوا أنفسكم، ألم تر كيف كانت حياتي ونهايتي؟ ألم تتعلم كيف تصبح أبلهَ وتعيش الحياة؟ لم تبعتني؟»، فرد العجوز قائلا «أنا لم أتبع أحدا، لقد وجدت نفسي أسير على طريق لا أعلمه، لم أجاهد للسير فيه، لم أخطط له على الإطلاق، اختلط علي الصواب والخطأ، تموجت ما بين الحقيقة والخيال، ولكن من أنت لتسألني وأخبرك، إنها المرة الأولى التي أتكلم فيها مع الغرباء، من أنت؟»، فرد الغريب قائلا «فريدريك نيتشه الذي مات مجنونا، واتخذته أنت قدوة»، قال العجوز «لقد عشقت حروفك وكلماتك، لقد ضغطت بإصبعك الذي لم أره على الجرح، أقرأ لك وأنا أعلم بسوداويتك، لكنها جزء مني، ومن كل إنسان في هذا العالم، أنت واقعي للغاية، لذلك تبعتك بلا شعور»، قال نيتشه «أعتقد بأن بؤسي يطاردكم، حتى أولئك الذين يدعون السعادة من حولك، لقد أهملني البشر في عصري، وانتقمت كتبي من أحفادهم وما زالت وستظل، أشعر ببعض الشفقة عليك، ولكنه العدل يا صديقي، إنه العدل يا صديقي».
كانت عيني العجوز مغرقة بالدموع، إلى أن سالت على تجاعيده بعد أن فرغ نيتشه من حديثه، وفجأة لم يعد يشعر بحرارة خط الشمس الذي يتسلل من الثقب، حاول رفع نفسه معتقدا أن الليل أتى، وإذ به يسمع صوتا قادما من الثقب ويقول «لا تخف يا عزيزي، اجلس في مكانك، لست بهذا الجنون الذي يجعلك تجلس يوما كاملا في مكانك دون أن تشعر، الشمس تحرق ظهري قليلا»، رد العجوز قائلا «ومن أنت أيضا؟»، قال له «أنا الذي يعشق الظهور لأمثالكم، أنتم الانطاوئيون على أنفسكم تتشاركون الكثير من الأشياء، أعلم بحالك المزري، وبأن زوجتك التي تعشقها ماتت منذ زمن بعيد، وبقيت وفيا لها في هذا المكان، وتركت الحياة ومتعتها لأجلها، أنت من الذين يستحقون مواساتي»، قال العجوز «لقد كانت تمثل لي كل شيء، كان يراودني شعور دائم بأن فقدانها سيقتلني، لقد رضيت بأن تحبس نفسها معي في العزلة حتى وفاتها، تساءلت كثيرا بعد هذا العمر، لم كل هذا التعلق الشديد بها، ماذا فعلت بنفسي، لم لا أستطيع الخروج لهذا العالم، كنت منعزلا تماما لدرجة أن ابنتي غادرتني فجأة وهي مراهقة، كادت أن تموت في هذا المكان وهي حية بسببي، لم ترغب في أن تكون نهايتها مثل أمها، وأتساءل لم أنا خائف دوما؟ هل لأني كنت أعشق العزلة منذ صغري؟ أم ان القراءة والتفكير والبحث عن الحقيقة لم يكشفا لي سوى الوجه القبيح لهذا العالم؟»، قال الغراب «لا يا صديقي، أنت مجرد ضحية لأخلاق الجنس البشري البائس، لم تستطع العيش معهم لنقاء قلبك، ولحساسيتك الفنية المفرطة، وابنتك لم تحتملك وبحثت عن نفسها، فالعالم لا يتسع إلا للحمقى والأقوياء الشغوفين بالسيطرة، وفي الحقيقة هذه النهاية الحتمية لأمثالكم، الموت في العزلة»، قال العجوز «لم يعد هناك متسع من الوقت، أليس كذلك؟!»، قال الغراب «إنه العدل يا صديقي، إنه العدل يا صديقي»، فصرخ العجوز قائلا «ما بالكم ترددون كلمة العدل، ماذا فعلت أنا من جرم لأنال جزاء عليه؟ ومن أنت؟ لم تستغل ضعفي وعمى بصري لتتلاعب بي؟» قال الغريب «أنا الغراب الذي ارتبط بأمثالك، ومنهم شاعرك البائس الذي عشقت أبياته وكنت ترددها دائما وتعتبرها نبراسا، إنه إدغار آلان بو»، قال العجوز «وماذا فعلت أنا لتطبق العدل علي؟» قال الغراب «عندما تختار إنسانيتك، فأنت تختار وحدتك، وهذا هو جزاء الوحدة».
بدأ العجوز في البكاء الممتزج بالسعال، اشتد الألم، اضطربت دقات القلب، حاول الوقوف مستندا الى الطاولة، لكنه سقط على الأرض مع كرسيه الذي لم يبرح مكانه منذ سنوات، الاختناق سيد الموقف، يبحث عن علبة الأكسجين الصغيرة التي يستعملها لصدره، لكنه لا يستطيع الرؤية، يتلمس المكان من حوله، في هذه اللحظة فتح الغراب جناحيه معلنا الرحيل، وتزامن معها خروج الروح للرجل العجوز، لقد عاش وحيدا كما مثله الأعلى نيتشه، ومات في العزلة وحيدا كما عشقه إدغار آلان بو.
[email protected] - @tareqalfreah