سمعت بذلك اليوم الذي ولدت فيه، كان جو الكويت في ذلك الوقت باردا جدا تخلله رذاذ البرد، في ذلك الوقت احتضنتك «نانا رباب» قريبا من جسمها وغطتك لتبقيك دافئا وآمنا.. لقد اعتادت أن تقول لك إنك ستصبح رجلا عظيما ومهما.
وسمعت أيضأ كيف توفي جدي الغالي حينما كنت صغيرا جدا، توفي في تلك الليلة حينما كنت تعمل بعيدا وكان هذا شيئا لم يكن بمقدورك أبدا أن تنساه أو تتخطاه، بيد أنك تابعت عملك من أجل مساعدة والدتك في العناية بإخوتك وأخواتك.
ولقد سمعت أيضا كيف كانت منازلكم من الطين وكيف كانت تتداعى بفعل المطر أحيانا، وكيف كانت كل الأسر الرائعة تعيش في براحة العباس في «الجبلة» كجيران وأصدقاء.
وكيف كان طعامكم يتألف من الخبز والشاي فقط وأحيانا العدس.
ولم تكن تنسى أبدا أصحاب المحال الذين كانوا يساعدونك بالقليل من الطعام لتأخذه إلى والدتك الأرملة التي كان لديها الكثير من الأفواه الصغيرة الجائعة.
وحينما كنت صغيرا لم يكن لديك ما يكفي من المال لتلعب بالديرفة (الأرجوحة)، لذا كنت تدفع أرجوحة الأطفال الأغنياء الى الاعلى وبنحو أسرع بحيث تستطيع أن تتسلق أرجوحتهم وتستمتع بكونك طفلا ولو لوقت ضئيل.
وقد مارست الكثير من الأعمال منذ أن كنت شابا حتى أصبحت رجلا ناضجا وتنوعت تلك الأعمال من تكسير الحجارة الى جلب الماء الى قيادة السيارات.
ولم تنس يوما أبدا فناجين الشاي الدافئ التي اعتادت الأسر البريطانية في شركة نفط الكويت أن تقدمها لك بعد توصيلهم بالسيارة.
ولقد تمكنت من تكوين الكثير من علاقات الصداقة الرائعة التي ملأت حياتك بالسعادة والفرح فالتمتع بحياة سعيدة كان رغم كل شيء شيئا تستطيع إيجاده بسهولة.
لقد اعتدت القول لنا إنه طالما كان هناك طعام أمامنا وسقف فوق رؤوسنا فليس هناك سبب يدعونا للتبرم.
ولم يكن يمر يوم واحد دون أن تشكر الله للنعمة التي أمامك، كنت تشكره بطريقة مفعمة روحيا ومن داخل أعماقك.
لقد كنت تحب الموسيقى كثيرا وأردت أن تسمعها في كل مكان سواء في البيت أو خارجه، لقد اعتدت القول إن الموسيقى غذاء الروح وكانت أسماء مثل فريد، عبد الوهاب، أم كلثوم وعبدالحليم بين قائمة من الأسماء الجديدة الأخرى التي كانت تضاف لها أسماء أخرى مثل أليسا..
والواقع أن فريد وغيره من مبدعي الموسيقى كان السبب الذي دفعك لتعلم القراءة لأنك كنت دائما تريد أن تعرف ماذا يقولون، لذا كنت تمسك بكتاب كلمات الأغاني وتستمع، لتقارن ما تسمعه بالكلمة التي أمامك.
وحينما كان يتوفر لديك شيء من المال ليست أمك بحاجة إليه كنت تذهب لمشاهدة أحد أفلام فريد الأطرش في البصرة حيث كنت تعمل في ذلك الوقت، وفي إحدى المناسبات التي زرت فيها صديقا لك في لبنان كنت تمر أمام دار للسينما تعرض فيلما لفريد، وبالرغم من أن الفيلم كان قد أوشك على نهايته اشتريت تذكرة دخول لتشاهد ما تبقى منه.
لقد كنت تتمتع بالكثير من السمات المدهشة فقد كنت مستقيما، مخلصا، كريما، خلوقا، تعمل بجد ومرنا.
وكنت من أنصار المرأة حتى النخاع فقد كنت تتذكر دائما بإعجاب كفاح أمك الذي لا يصدق وتضحياتها من أجل أطفالها.
وكنت في الوقت ذاته رجلا في غاية التواضع وتحمل ألطف وأنقى قلب.
بيد أن واحدة من الخصال العديدة التي كنت عظيما فيها تمثلت في قدرتك على التأقلم، فقد عشت مع أجيال عديدة وتكيفت مع كل واحد منها.
لقد كنت محظوظة لأني ولدت حينما أصبحت أقل انشغالا بالعمل.
لقد سألتك مرة حينما كنا جالسين في الحديقة فيما إذا كانت الحياة فيما مضى من الأيام، حينما كان الناس لا يملكون إلا القليل وكانوا راضين بما لديهم، أفضل من الحياة اليوم التي أصبح فيها كل شيء متيسرا.
قلت لي عندئذ إن علينا ألا نقارن بين تلك الأيام وأيامنا الراهنة لأن لكل وقت حسناته وسيئاته.
والحقيقة أن التأقلم كان سر عمرك الطويل وروحك الشابة وكنت سعيدة الحظ بسماع أغانيك حينما كنت أجلس بقربك سواء كان ذلك على الأريكة في المنزل حينما كنا نغني معا ونصفق أو حينما نكون في سيارتك أو على مقعد في حديقة «ريجينت». لقد كانت هذه الحديقة هي المكان الذي تعلمت فيه الحياة بالإصغاء فقط إليك ومراقبتك.
لقد كنت تجلس وتنظر من حولك وتتساءل وتتمعن الطبيعة من حولك من أشجار وطيور بالإضافة الى التفاعل الانساني، وكيف يتحدث الانجليز ويشرحون الأشياء لأطفالهم، وكنت دوما تكرر عبارة «سبحان الله».
في حديقة «ريجينت» وفي يوم بارد علمتني كيف أبحث عن كل شيء حينما كانت أغصان الأشجار عالية وكنت أتساءل ما هو الشيء الذي يلفت انتباهك.
وعندما نظرت الى السماء أدركت أننا كنا نجلس تحت فرع خال من كل الأوراق ما عدا برعم صغير بدا يتكون عليه.
لن أنسى ذلك اليوم أبدا، وسوف أكرس وقتي دائما للبحث بحيث لا أفوت أي شيء جميل في الحياة.
لقد كنت سعيدة الحظ أيضا بتناول العديد من الوجبات معك، سواء في البيت أو في المطاعم، وأن أراك تتعامل مع كل إنسان باحترام بصرف النظر عن جنسيته، ديانته أو دخله المالي.
وكنت دائما في عملك راضيا بما تملك.
وإذا كان الحصول على المزيد من المال يعني أن تظلم شخصا ما، كنت تشعر أنك لست بحاجة لذلك.
لقد كنت تعامل موظفيك بلطف وعدل لأنك كنت تقول لي دائما أنهم جزء من نجاحك، وكنت تعامل زوجاتك أيضا بحب واحترام كرجل «جنتلمان» حقيقي أمثاله نادرون في هذه الحياة.
لقد كنت تعامل أولادك وأحفادك وأحفاد أحفادك بمثل هذا الحب.
كان لديك فيض من الحب لمنحه للآخرين.
لقد كان من غير المعقول لشخص تميز بطول العمر ألا يشعر بالسأم أبدا فقد كنت مليئا دائما بالحب والمشاعر الرائعة.
لقد كنت تقدر كل وجبة وتتمتع بأغانيك كما لو أنك تسمعها للمرة الأولى.
لقد كنت تحب وتحب وتعانق وتقبل أطفالي الصغار كما لو أنك تفتقدهم بالرغم من أنك كنت قد رأيتهم قبل يوم من ذلك.
لقد كنت تزرع الزهور الدمشقية في حديقتك الجديدة في منطقة «السرة» التي نقلتها من منزلك القديم في منطقة «الروضة».
كنت تحب رائحتها وتشمها كل يوم حينما تتفتح وعندما كانت الماما «هدلة» تقطف تلك الزهور وتحضرها لك كي تشمها بل وحتى عندما اعتلت صحتك فيما بعد ظلت ماما «هدلة» تحضر لك هذه الزهور التي كنت تتنشق عبيرها بعمق كما لو أنك تشمها لأول مرة.
وفي كلا المنزلين كنا نتمتع بمراقبة الغروب الملهم وكنت تصر على وجود حديقة خارجية أكبر بحيث يمكن لكل عابر بالقرب من المنزل أن يتمتع بشيء جميل ينظر إليه.
لقد كان مقياس تقييمك لكل انسان هو ما إذا كان يعمل أو لا بصرف النظر عن نوع عمله وكنت تتساءل عما إذا كان هذا العمل مفيدا للمجتمع.
وأتذكر الآن عندما حصلت على أول شهادتين بعد سنوات من الدراسة نظرت إلي بقلق وقلت لي بعد أسبوعين فقط من الراحة في البيت: ماذا ستفعلين في حياتك؟
لقد كنت نموذجا مدهشا تعلم عن طريق تقديم مثال ممتاز وليس مجرد كلام فقط.
وكنت حريصا دائما ألا تؤذي أي إنسان بكلامك أو سلوكك وكنت تغفر لكل شخص أخطأ في حقك، وهذا أمر من الصعب جدا الاستمرار فيه لأكثر من تسعين سنة.
إني أشكر الله كل يوم لأنه منحني شرف ومباركة أن أكون ابنتك لأربعين سنة.
لقد اعتدت اصطحابي أنا ودانيا إلى نافورة «بلاغيت ستريت» في عصر كل يوم جمعة حينما كنا أطفالا حيث كنا نتمتع جدا بتسلق الهضبة والوقوف على قمتها لنتمتع بالمنظر الجميل إذ كنت دائما معي هناك تخبرني القصص وتستمع لي وتنصحني وتعانقني بحرارة عندما أكون بحاجة لذلك.
لقد علمتني أن أقدر كل شيء في الحياة، كيف أحب الموسيقى والمبدع فريد وكيف أضحك وأتمتع بكل ثانية لي في هذه الحياة.
كان لديك حس فكاهي عال ولن أنسى أبدا كيف كنا نجلس معا ونشاهد المسرحيات الكوميدية المصرية و«درب الزلق».
وقد كنت راويا رائعا للقصص عرف كيف يستمتع بالحياة وكنت تحبك قصصك المثيرة التي لا تصدق بطريقة تلفت الانتباه وتضفي عليها شيئا من حسك الفكاهي الرائع.
لقد طلب منك الكثير من الناس وأنا منهم أن توثق وتكتب قصتك وكنت تجيبنا دوما بقولك: «ليس لدي قصة لأرويها»، وهذا انعكاس لما كنت تتميز به من تواضع.
والحقيقة أن قصة حياتك بها الكثير من المقومات التي يمكن أن تجعلها فيلما جذابا جميلا من بداياتها المتواضعة مرورا بنضالك وعملك الشاق الى نجاحك الرائع الذي حققته بنفسك دون أي تغيير في شخصيتك الرائعة.
فحتى في الأشهر الأخيرة الصعبة من حياتك كنت تشعر بالقلق حيالنا وأردت مساعدة كل واحد فينا.
صحيح أنك تجاوزت التسعين عاما لكنك كنت تملك قلبا وعقلا وروحا وطاقة وحماسا للحياة مثل شخص في العشرين من عمره.
كنت تحب الالتقاء بالناس الذين يتميزون بالطاقة والحيوية مثلك وكل من عرفته كان يقول لي إنه أحبك منذ أن رآك أول مرة.
لقد كانت أكثر الجمل التي تكرهها هي «إني متعب»، فقد كنت تقول لنا دوما إنك عندما كنت شابا كنت تعمل أحيانا لعشرين ساعة في اليوم من أجل أن تؤمن الطعام لعائلتك، وكيف كنت تتحمل سنوات الحر والبرد الشديد والخوض بالوحول من أجل فقط أن تؤمن الراحة لأسرتك.
كنت تكره اللون الأسود، الكسل، التذمر والحزن وكان لونك المفضل هو الأحمر النابض بالحياة والمليء بالطاقة مثلك.
ولذا ارتديت الوشاح الملون من أجلك في جنازتك لإحياء ذكراك.
وفي جنازتك كما في حياتك جاء الكثير من الناس المدهشين من جنسيات وديانات مختلفة في إعراب عن الاحترام لتلك الشخصية التي قالت لهم وداعا.
أبي، أنت بطلي، حياتي وكل شيء... صحيح أن جزءا منك قد رحل لكنك تبقى دائما في قلبي وفي ذاكرتي.
ففي كل مرة أرى فيها مشهدا جميلا بدءا من الأرض وحتى السماء سوف أتذكرك.
وفي كل مرة أتذوق فيها الطعام سأتذكرك، وفي كل مرة أشم فيها عبير الورود سأتذكرك، وفي كل مرة أسمع فيها فريد أو أي أغنية جميلة أخرى أو حتى أغاني الطيور وصوت الضحكات سوف أتذكرك، وفي كل مرة أشعر فيها بالحب والسعادة سوف أتذكرك.
إني أعتقد أنك في مكان أفضل الآن وسوف أتذكر واحتفل بحياتك وقصصك، وأذكر أطفالي بذلك الرجل العظيم الذين كان لهم شرف التعرف عليه ولو حتى لوقت قصير، إنه جدهم الذي منحهم أصفى وأكبر معاني الحب.
أشكر الله الآن كما أشكره كل يوم لتشريفي بأب مثلك..
خذيت معاك جزء من قلبي (ومفتاحه)
والدنيا حلوة معاك وراح اقعد طول حياتي... بنادي عليك... هااهاااهااا
الله يرحمك يبه ويغمد روحك الجنة
الفاتحة على روح أبي الغالي مصطفى كرم.