حين الحديث عن المسرح، لا يستطيع باحث أو ناقد أو حتى متطفل أن يتجاوز الأساطين اللامعة من أمثال «شكسبير» في إنجلترا و«غوته» في ألمانيا! فقد فلسفوا النص المسرحي فتعايشوا معه، وتقسمت بفعل نصوصهم فئات المتلقين، بحسب الموضوعات والاهتمامات والإثارات وصياغة النصوص، فكان الإبداع سبيلهم، ارتكزت كتاباتهم على دعائم راسخة، فما الموهبة، والأساس الثقافي، واللغة الإبداعية المتطورة، وحب المسرح والتذوق الفني، إلا أسس نجاح تلك الأعمال «اهني مربط الفرس»، فكان نتاج ذلك ابتكار النصوص، وحسن الإتقان، ووضوح الهدف.
وبالعودة إلى «مربط الفرس»، نجد في مجتمعاتنا المسرحية، فننا خبط عشواء! تقتات على كل ما هو منحدر، تجتمع فيها أبشع صور الفهم للتذوق الفني وأنماطه، تتلاءم فيها عناوين التخبط، وضعف المطالب، وتتضارب فيه عروض، إما تعرض الفكرة فتشوهها، أو تستخف بنا كمتلقين ومتذوقين، فتنتقص من فهمنا وتذوقنا، شتان بين ما كنا وما نكون الآن في حاضرنا، كنا الصدارة والسبق والأولوية، في مختلف الفنون سيما المسرح، وأصبحنا لا نلحق حتى في مقام المؤخرة!
فبعد أن كنا جيل مجتمع «بني صامت» و«فرسان المناخ» و«فرحة أمة» «وغيرها»، تلك المسارح الشامخة والنصوص المتألقة التي أبدعت في شرح حاضرها، بل وحتى في تحليل مستقبلها! «حامي الديار»، جيلا تعايش مع كل مقومات الفن الأصيلة من كتاب ومخرجين وفنانين، أكدوا جميعا على أكاديمية الفن، وأنه ليس ملاذا ومفرا لمن لا نصيب له من شيء «عطالي بطالي»، فأصبحنا مع ما نراه اليوم، بعموم صور الفن في مجتمعنا نعيش في «... كلام قلته بقلبي»، أترفع عن ذكره للقارئ العزيز، ولست بصدد تحليل أنماط فننا المعاصرة، ولا كتابها ولا فنانيها، لكنها وقفة مع ذاتنا، نستذكر فيها الجميل فنستعبر، ونستنكر فيها القبيح لنتعظ، وقفة مع الذوق العام، وأخلاقية النص، وعفة الخطاب، وصور الفن ورسالاته، ومراجعة كل ما تم تلقيه في السنوات الأخيرة، وما تم غرسه من تشويه للفن وقيمه، وإساءة لمضامينه، والأمثلة فيها كثيرة «بالعشرات»، هدر للوقت والمال والطاقة، لا يسع المقام لذكر ما جنته على المتلقي..
ننسى أو نتناسى، بل نتجاهل خطورة هذه الآلة الإعلامية التي تحمل اسم «المسرح»، ونستبسط بكل سذاجة آثارها ووليدها الفكري الذي قد يتحول إلى مارد ضخم يبتلع كل فكرة جميلة من عاداتنا وتقاليدنا وتعاليم ديننا وحتى ما نتفق فيه مع تعاليم الإنسانية وبديهياتها! فأصبح المسرح عنوانا ومرتعا لكل لفظة شاردة وسوقية ونابية! هتكوا هذا الصرح الإعلامي الذي قالوا فيه «اعطني مسرحا أعطك شعبا مثقفا»، لكن ذلك لن يكون، والهدف والغاية لدى المتنفذين اختلف، كما أن الرؤى اختلفت، والمبادئ هوت، فأصبحنا الآن نشاهد مسارح الهمز واللمز والتنابز وانعدام المضمون، واستبدلنا النرفانا «السمو الروحي» والملاحم والمسرح السياسي والتثقيفي ومسرح الطفل وغيرها، بمسرح مرعب خاو جثم على صدره كل متنفع متطفل!
لست هنا مدافعا عن المتلقي والمشاهد، فاللوم والمسؤولية لا ينفكان عن كلا الطرفين، فنحن مسؤولون كذلك عن ترسيخ هذا الحال والواقع، بالصمت، والدعم، والنفاق الاجتماعي، والإنفاق والحضور والمشاركة!
يقول «تولستوي»: إذا ما أراد الفن أن يكون أصيلا، فلابد أن يكون مفهوما، وبخاصة، لدى هؤلاء الذين نخاطبهم.
٭ توضيح: محل النقد هو النصوص والأداء ولا شأن لي في الذوات.
٭ أمنية: إيقاف النشاط المسرحي بدلا من النشاط الرياضي!