لطالما كانت الكتابة في الشأن السياسي حقل ألغام لا ينجو منه إلا من برع في إخفاء ميوله ومواقفة الأيديولوجية، إلا أن المواطنة الحقة والمناخ الديموقراطي السليم والمنشود يبرزان حتمية النقد لأي تجربة سياسية كضرورة لتقييم وتشخيص عيوب المرحلة ووضع الحلول الملائمة لها، كما أنها فرصة مواتية لدعم وتعزيز الإيجابيات، فالدولة ليست ملكا خاصا لحاكم مهما كانت مكانته، فصفحات التاريخ تعج بنهايات مأساوية لحكام أحاطوا أنفسهم بهالات إلهية لا تسمح بالنقد أو مجرد التفكير فيه.
تحداني صديق ـ يعلم جيدا أنني اشتراكي الهوية وناصري الهوى ـ أن أنتقد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وقبلت التحدي لأن انتمائي للتيار الذي عبر عنه وقاده عبد الناصر لا يمنعني من انتقاده وتفنيد أخطاء التجربة وخطاياها، ففي يقيني أن جمال عبدالناصر لم يكن شيطانا ولا ملاكا، ولكنه كان مواطنا مصريا تحمل مسؤولية قيادة مصر في فترة انتقالية مليئة بالتحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية الدقيقة، أصاب وأخطأ، فشل ونجح، وعد وأنجز ووعد وأخلف، دخل في صراعات وتحالفات، اكتسب عداوات وكون صداقات، كرهه قطاع من المصريين وحفر لنفسه مكانا في قلوب الملايين من الشعب العربي من المحيط إلى الخليج.
من أبرز عيوب وتناقضات المرحلة الناصرية هو الطابع الفردي للحكم حيث حكم عبدالناصر دون الاعتماد على تنظيم حزبي جماهيري قوي، ولم يكن لمؤسسات الدولة دور فاعل في تخطيط مستقبلها أو الكلمة العليا فيها، فكانت شخصية الزعيم دائما هي البديل المتاح، إلا أن الخطيئة الكبرى كانت اعتماد النظام على أجهزة أمنية استبدادية، ولا أعرف كيف لزعيم تاريخي يستمد دعمه من شعبية جماهيرية كاسحة أن يعتمد على أجهزة أمنية معادية للجماهير التي لطالما ساندته في أحلك المواقف.
لا ينكر أعداء عبدالناصر قبل مناصريه أنه استطاع أن يقوم بحزمة من الإجراءات الاشتراكية والتحولات الاجتماعية الهائلة ولكنه للأسف أوكل الإشراف عليها لمجموعات من العناصر التافهة والانتهازية في إطار اعتماد واضح على أهل الثقة وليس أهل الخبرة والذي كان نهج النظام في هذه المرحلة.
يروج البعض أن فترة حكم عبدالناصر شهدت تصفية نظام اجتماعي كامل كان يقوم على تحالف الرأسمالية والإقطاع، إلا أن ما يراه هؤلاء ظلما تراه طبقة عريضة من أبناء الشعب المصري عين العدل، فلقد تحول المجتمع المصري من مجتمع الـ 5% يأكل ويحكم ويتعلم إلى مجتمع اشتراكي جعل الفلاح والعامل من أصحاب الأملاك، وبنى قطاعا عاما عريضا لم تستطع حكومات متعاقبة أن تتمم بيعه بالكامل إلى الآن!
الإيجابيات في عصر عبدالناصر تفوق حجم السلبيات، إلا أن السلبيات المروعة مثل نكسة يونيو 1967 حجبت الكثير من الإنجازات، بالإضافة إلى أن تداخل الإيجابيات والسلبيات يقف عائقا أمام التقييم الموضوعي للمرحلة، ما لعبدالناصر أكثر بكثير مما عليه وسيظل نقطة شرف مضيئة وعلما بارزا دخل تاريخ مصر والأمة العربية من بابه الكبير.. زعيم خالد أبى الموت أن يغيبه وسيظل هاجسا يؤرق كل منتقديه لأنه انحاز للفقراء..
خلاصة الكلام
لكل من يستكثر عليه الرحمة.. رحم الله جمال عبدالناصر.. وموتوا بغيظكم.
[email protected]