لماذا تغيب عن نفوسنا مهمتها الحقيقية؟ أتحسبون أن مهمة حياتكم محصورة في تلبية متطلبات هذه النفس الأمارة بالملذات أم تظنون أن الغاية من وضع ما أودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة وآلات وأعضاء حساسة وجوارح وأجهزة بديعة ومشاعر إنما هي لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هذه الحياة الفانية حاشا وكلا، بل إن خلق تلك اللطائف والحواس والمشاعر في وجودكم إنما يهدف إلى الترقي الروحي بأن تستشعروا الشكر تجاه كل نوع من أنواع النعم التي أسبغها عليكم المنعم سبحانه وبأن تتعرفوا على تجليات الأسماء الحسنى التي تعم الوجود كله والإيمان بتلك الأسماء ومعرفتها معرفة حقيقية ذوقية خالصة وربطها بحياتنا لأنه على هذين الأساسيين تنمو الكمالات الإنسانية وبهما يغدو الإنسان إنسانا حقاً.
فانظر الآن من خلال هذا المثال لتعرف أن الإنسان بخلاف الحيوان لم يزود بالأجهزة لكسب هذه الحياة الدنيا فقط.
أعطى سيد خادمه عشرين دينارا ليشتري بها ثوبا لنفسه من قماش معين فراح الخادم واشتراها من أجود أنواع الأقمشة ولبسها ثم أعطى السيد نفسه خادما آخر مبلغا اكبر ولكن وضع في جيبه ورقة تعليمات وأرسله للتجارة، إن كل من يملك شيئا من العقل يدرك يقينا أن هذا المبلغ ليس لشراء ثوب، إذ قد اشتراها الخادم الأول بعشرين دينارا وحسب فلو فرضنا أن هذا الثاني لم يقرأ ما كتب له في الورقة وأعطى كل ما لديه إلى بائع الأثواب واشترى منه ثوبا تقليدا لصديقه الآخر ومن أسوأ أنواع الأثواب الا يكون هذا قد قام بفعل قبيح يستحق أن يؤدب بسببه ويعاقب عليه عقابا رادعا.
فيا أيها البشر أصحاب النفوس الأمارة بالسوء استجمعوا عقولكم ولا تهدروا أعماركم ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية وملذاتها الزائلة فالعاقبة وخيمة.
إن ماهية حياتك الذاتية أيها الإنسان ترتبط بالأسماء الإلهية الحسنى وهي مقياس مصغر لمعرفة الألطاف الإلهية، كما أنها ميزان لمعرفة حقيقة العوالم المتعددة وما في هذا الكون وانها مجموعة مفاتيح لكنوز القدرة الإلهية الخفية وأحسن تقويم للكمالات المبثوثة في الموجودات فهذه وأمثالها هي ماهية حياتك وليس غيرها مما تتسابق عليه من ملذات رخيصة، واعلم أيضا أن حياتك كلمة حكيمة خطتها يد القدرة الإلهية وهي مقالة بليغة تدل على الأسماء الحسنى المشهودة والمسموعة فهذه وأمثالها هي صورة حياتك التي هي مرآة تنعكس عليها تجليات اللطف الإلهي تجليا جامعا وكأن حياتك نقطة مركزية لجميع أنواع الأسماء الإلهية المتجلية على العالم كله.
وكمال سعادة حياتك يكون عندما تمتلك الشعور بما ينعكس من أنوار التجليات الإلهية في مرآة حياتك وحبها وإظهار الشوق إليها وأنت مالك لهذا الشعور في وجدانك كله.
أيها الإنسان، إذا كانت حياتك ثمينة إلى هذا القدر من هذه الغايات المثلى القيمة فهل يليق بك أن تهدرها في أمور تافهة وتستهلكها في رغبات عابرة؟!