نبدأ بالخاتمة.. بقول العزيز الجبار سبحانه:
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار).
الأخبار المزعجة والكم الهائل من الفساد في وطني، بكل أشكاله الغريبة التي توافدت على مجتمعنا من جميع أقطار الأرض، وكأن الفساد سلعة تبحث عن وكيل تجاري كويتي فاسد، ليفسد في وطنه، ويسرق أهله ويسيء لسمعة عائلته، ومن عجائب هذا الفساد إنك تعجب لتفاصيله، الحيل شيطانية، الأسماء ملائكية، والأرقام فلكية، هدم بها الفاسدون صروح العز والفخر التي بناها لهم آباؤهم وأجدادهم من المجد الشريف العفيف. فإن هم فرحوا بما كسبوا من حرام، فإن«الخير يخص والشر يعم» نعم لقد عم عارهم على كل أبناء جلدتهم.
يقول الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت» ان الشك بداية التفكير والتفكير دليل الحياة: (أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود)، ومما لا شك فيه فإن المجتمع الكويتي حر، متعلم، مثقف ومتحضر، في بلد صغير منفتح، حرية الرأي مكفولة بالقانون، لكن من هول ما نسمع ونقرأ أصبح الشك في كل شيء في حياتنا، كما قال الشاعر نزار قباني (بتصرف) «الشك» في الأرض. بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها..لاخترعناه لذلك ترى المواطن يشعر بالألم، وتراوده شكوك، ويبحث عن اليقين «هل نحن شعب غافل» شعب يرى ويسمع ويشعر بالفساد، وهو صامت وصامد أم «نحن شعب يتغافل» ويقول (إن للكويت ربا يحميها) شعب قنوع، يعمل بحكمة واتزان، يحافظ على القليل المتبقي مما ورثناه من آبائنا من قيم وأمانة وكرامة وعزة نفس، ونحمد ربنا الذي أطعمنا من جوع وآمنا من خوف، نعم تصلنا كل أخبار الفساد، لكن نردد قول الحق: (واصبر وما صبرك إلا بالله). ونفكر ونتعظ بما يحصل بالدول القريبة والبعيدة، لأنهم أرادوا الكمال، كانوا يملكون %80من النعمة، لم «يتغافلوا» ويصبروا ويحافظوا عليها، ويتركوا الخلق للخالق فخسروا كل شيء وأصبح أمنهم خوفا.
واقتبس هنا قول د.بندر الرباح في «أدب التغافل»، وما أدراكم ما التغافل؟ يقول سفيان الثوري - رحمه الله-: «ومازال التغافل من فعل الكرام».
والتغافل هو الغفلة، مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه، تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور.
فالمتغافل يتعمد الغفلة عن أخطاء وعيوب من حوله، مع أنه مدرك لها، عالم بها، لكنه يتغافل عنها كأنه لم يعلم بها لكرم خلقه.
والتغافل دليل قوي على حسن خلق صاحبه، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل».
وليس التغافل دليلا على الغباء، أو السذاجة، بل هو العقل والحكمة، كما قال معاوية رضي الله عنه: «العقل مكيال، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل».
وقال الشافعي -رحمه الله-: «الكيس العاقل هو الفطن المتغافل».
ففرق بين أن تقصد الغفلة والغباء، فالأول محمود، والثاني مذموم:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
ومن تتبع سير العظماء وجد أن من أعظم صفاتهم التغافل، قال ابن الأثير متحدثا عن صلاح الدين الأيوبي: «وكان صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه».
هذه هي أخلاق العظماء، وهذا سر عظمتهم، ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه: «عظموا أقدراكم بالتغافل».
ومن أعظم فوائد التغافل أنه يكسب صاحبه راحة في نفسه، ولقد أعطانا رسولنا صلى الله عليه وسلم مثالا عظيما على ذلك، كما في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المشركين كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمد!».
مع أنه يعلم صلى الله عليه وسلم أنهم إنما قصدوه، ولكن، كما قال القائل:
ولقد أمر على السفيه يسبني
فمضيت ثمة قلت لا يعنيني!
أما الذي يقف عند كل خبر، ويرد على كل خطأ، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فهو أكثر الناس شقاء، وأشدهم نكدا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «من لم يتغافل تنغصت عيشته».
كم من مشاكل وقـــعت في المجتمع كان سبــبها عدم التغافل! وكـــم دول وشعوب ضاعت، لو أنهم رزقـــوا التغافل لزال عنهم شر كثير، كـــما قال الأعمش -رحمه الله-: «التغافل يطفئ شرا كثيرا».. فكم نحن بحاجة إلى التغافل!
تذكر قول الحق: (أطعمهم من جوع) وهو الأمن الغذائي، (وآمنهم من خوف)، وهو الاستقرار والأمن والأمان.
تذكر تراب وطنك الطاهر لم يدنسه الأغراب، تذكر أن أفراد أسرتك حولك، أكلك حلال، وماءك زلال، تهنأ في نومك، وتسعى طول يومك، حقك محفوظ، والمثل الشعبي يقول: «من أراد عافية فوق عافيته، زاده الله مرضا».
[email protected]