بيروت - د.ناصر زيدان
ثمة اعتقاد لدى نخب واسعة من المتابعين وأصحاب الرأي، أن ما وصل إليه لبنان من انهيار مالي واضطراب سياسي، كان نتيجة رؤى مختلفة لقوى متحالفة في العلن، ولكن لكل منها مشروعه المختلف عن الآخر، والتخبط وقلة الخبرة أديا إلى ضياع البلاد في لحظة سياسية مفصلية تعيشها المنطقة برمتها، وسط انكفاء للدور العربي، وشراهة لدى الطامعين في توسيع رقعة نفوذهم في الإقليم.
لا يمكن اعتبار ما حصل في لبنان مصادفة سياسية، أو حتى جراء أخطاء تتعلق بركاكة الأداء لدى الفئة المتحكمة بزمام الأمور، ومنذ 7 سنوات يلاحظ المراقبون أن شيئا من المكابرة تغلب على طريقة عمل فريقين أساسيين بالمعادلة القائمة، ويتأكد مع الوقت أن لدى كل منهما أجندة للوصول إلى لبنان مختلف عن لبنان الحالي، ولا يمكن أن يكون هؤلاء على عدم دراية بالنتائج الكارثية لسياسة تعطيل غالبية مؤسسات الدولة - ومنها الرئاسة الأولى - كما بالاستهتار بكل المرافق الإنتاجية والخدماتية وخلق عداء مع المظلة التي تحمي مصالح اللبنانيين في الداخل والخارج.
بل على العكس من ذلك، فإن هذه النخب ترى أن القيمين على أمور الدولة منذ 7 سنوات، كانوا يخططون لتغيير الواقع اللبناني القائم، وتبديل الحالة التوافقية الهشة وفرض مقاربات مختلفة لها أبعاد حزبية وطائفية، وتحمل ارتباطات خارجية واضحة.
والخطاب السياسي الأخير لطرفين رئيسيين في المعادلة السياسية اللبنانية، يؤكد وجود نية لتغيير الواقع اللبناني.
وقد أعلن رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل مثلا: أن الدستور اللبناني «تافه» ويجب اعتماد لامركزية موسعة - وأكيد أن الموسعة تخفي تفسيرات تقسيمية عديدة - كما أن حزب الله وعلى لسان أكثر من مسؤول سياسي وديني يدور في فلكه، أعرب عن رغبة واضحة في إرساء معادلة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار فائض القوة التي يتمتع بها على المستوى العسكري والمالي والطائفي.
والاقتراحات المتداولة في السر - وأحيانا في العلن - ترسم صورة عن نية لإنهاء صيغة لبنان الكبير الذي ولد قبل 100 عام، وبالتالي الانسحاب من العقد الوطني الذي يجمع بين اللبنانيين، فأحد فرقاء الحكم يعتبر أن ضم الأقضية الأربعة (من البقاع والشمال) إلى متصرفية جبل لبنان في العام 1920 أخل مع الوقت بالتوازن الديموغرافي لصالح المسلمين، والطرف الثاني في المعادلة يعتبر أن صيغة ميثاق العام 1943 وتسوية الطائف للعام 1989 لم تعد ترضي طموحاتها الميثولوجية والسياسية، والطرفان شريكان في معادلة قامت منذ 7 سنوات، ولكن لكل منهما أهداف مختلفة.
أما باقي القوى والأحزاب الأخرى، فعاشت على فتات التسوية القائمة، إما خوفا من السلاح الذي يمتلكه حزب الله، وإما لتجنب خسارة محكمة، لأن اتفاق الطائف فرض على القوى السياسية ضرورة الدخول في جنة السلطة، لأنها أصبحت في يد مجلس الوزراء مجتمعا، وكي لا تصبح هذه الأحزاب خارج المعادلة الطائفية نهائيا. لكن الواقع اللبناني سيفاجئ المخططين لتغيير الوضع القائم، على اعتبار أن أي معادلة أخرى لا يمكن أن تفرض بسهولة، ولبنان أكبر من أن يتحكم فيه طرفان، أقوياء اليوم، وربما سيكونان الأضعف في المستقبل القريب.
بين هذه وتلك من الرؤى التي غيرت لبنان، وجعلته بكامله ضحية فقر وبؤس في محيط مضطرب، يتم الترويج لمفاهيم جديدة بمناسبة تشكيل الحكومة، بعد أن فشل مصطفى أديب في تشكيل حكومة طوارئ من مستقلين. ورغبة الرئيس سعد الحريري في العودة لترؤس الحكومة، بعد أن سقطت حكومته السابقة أمام انتفاضة 17اكتوبر 2019، قد تكون فرصة لترميم ما تبقى، أو ربما استعادة بعض الثقة، لكن الحريري يواجه بعراقيل غريبة، منها تعطيل الاستشارات بحجة عدم وجود ميثاقية مناطقية، ومنها إثارة مخاوف المسيحيين من إنشاء حلف رباعي جديد يضم كل المسلمين، وكل ذلك تهويل لا أساس له، وربما يخفي نوايا انتحارية أو تقسيمية جديدة.